عندما نخشى الفقد، أو نتذكر إمكانية حدوثه، نواجه حقيقة ما فتئنا نُنكرها لتستمر حياتنا، حقيقة الموت…ـ
وقد يكون فهمنا للفقد أنه أمرٌ هدّام، إزالة لوجود، إحداثٌ لفراغ وخواء بلا معنى ولا هدف ولا ينتج عنه سوى الألم…ـ
وقد نتوقع أننا عاجزون عن تحمل حزن الفقد، يرعبنا "الافتقاد"، وكأن الأسى الناتج عن الفقد هاوية بلا قاع إن وقعنا فيها نظل للأبد مستمرين في السقوط…ـ
وقد يكون حزن الفقد مؤلماً لتلك الدرجة بالفعل، ويحدث أن يكون قاسياً لدرجة يصعب أن توصف بالكلمات، وقد يشعر المفتقد أنه لا صُبح بعد ظلام ليل حزنه أبداً…ـ
إلا أنه على الرغم من كل ما نظنه عن الفقد وكل ما يُرعبنا من حزنه، فإن في حزن الفقد الذي يكتمل بدون إجهاضٍ مبكر إجراءً بنائياً، تخليداً نفسياً لوجود، تثبيتاً لمحتوى مساحةٍ نفسيةٍ وتسويراً لها، وخبرة لها أحد أعمق المعاني في الخبرات البشرية…ـ
حزن الفقد الذي يأخذ مجراه دون اعتراض من محاولاتنا لوأده أو إنكاره أو كبته عتمة يتلوها شروق…ـ
يُتيح لنا حزن الفقد فرصة التعامل مع المشاعر والذكريات التي اخترنا بوعيٍ منا أو بدون وعي أن لا نتعامل معها أو ننكرها أو نكبتها…ـ
يُتيح لنا تجميع خبراتنا مع من فقدناه في رواية متكاملة لها بداية ومنتصف ونهاية…ـ
يتيح لنا فرصة إتمام استدخال علاقتنا مع المفقود في نسيجنا وتثبيت موقعه في بنية شخصيتنا…ـ
يسمح لنا بالتوقف عن تعظيم المفقود أو تحقيره، والاحتفاظ بصورة تكاملية لبشريته الحاوية على الخير والشر…ـ
لن يستطيع المفقود أن يُغيّر مساوئَه ولا ميزاته التي سجلتها ذكرياتنا…ـ
وكأنما نوهم أنفسنا بأنه يتحنط في عقولنا بينما تُعيد صُنعَه ذكرياتنا من صلصال ليّن قابلٍ للتغيير عبر الزمن، ولكنه غير قابل لأن تفقده عقولنا!ـ
تُخلّد عقولُنا علاقَتنا بالمفقود فيها، وتبقى تلك العلاقة قالباً أو قوالب مؤثرة في علاقاتنا بقدر تأثير المفقود على مسيرة حياتنا…ـ
ففي الفقد زوال جسدي وبناءٌ نفسي…ـ
وفي حزن الفقد الذي يُرعبنا ونخشى حدوثه، ويؤلمنا كما لا يؤلمنا سواه عند حدوثه، تجسيرٌ من الملموس المحسوس، من المرئي المسموع، إلى المنسوج في دواخلنا والمحفوظ في تكويننا والمتكرر في علاقاتنا...ـ
ويكون الفراغ المتروك في حياتنا مملوءاً في ذاكرتنا وضوءاً أخضر يُجيز لنا توسيع دائرتنا وإضافة المزيد من العلاقات في عالمنا…ـ
الفقد وحزنه تختلط فيهما كل تلك المفارقات، وأهمها أنه نهاية ليست بنهاية، وفرصة لبدايات جديدة ستصير في يوم ما إلى نهاية ليست بنهاية…ـ
والله من وراء القصد