كلمة سمعتها من عدة متدربين في الطب النفسي، تُطلق بشكلٍ عابر وبدون عمق تفكير أو شعورٍ بوَقْعها.
هي اختزال لكلمة "سكيزوفرينيك"
schizophrenic
وتعني الشخص المصاب بالفِصام. أحاول هنا شرح الأسباب التي يجب أن تجعل من نطق مثل هذه الكلمات أمراً منافياً لأخلاقيات مهنتنا.ـ
يتضح من النظر في الألفاظ الدارجة المستخدمة لوصف ذوي الاضطرابات النفسية والنمائية أنها سرعان ما تتحول إلى رموز تحمل بشكل متزايد مساوئ #الوصمة الاجتماعية المرتبطة بتلك الاضطرابات. كلمات لم تكن في أصلها وصماً بالضرورة، مثل "نفسية"، "مخرّف"، "متخلف" تحولت إلى أدوات للشتم والتحقير...ـ
بل يتم أحياناً تحريف بعض المصطلحات الطبية والنفسية واستخدام الناتج لوصم المريض أو لاستحقار المرض، أو للاستخدام كوصف لشخص ما أو فكر ما بالانحراف أو الغرابة أو غير ذلك؛ مثل تحريف "الفِصام" إلى "انفصام في الشخصية" أو استخدام لفظ "موَسْوِس" تحريفاً من "الوسواس القهري".
من طبيعة وصمة المرض النفسي في كل المجتمعات وفِي كل اللغات أن تتحول بعض الألفاظ المستخدمة مهنياً في الطب وعلم النفس إلى أدوات لترسيخ الوصمة بدلاً من محاربتها. هذه حقيقة تاريخية مؤلمة.
ليس من الغريب ما نفعله ببعض تلك الألفاظ العربية مقارنة بما حدث ويحدث في الانچليزية...
على سبيل المثال: العديد من الألفاظ النابية في الانچليزية والمستخدمة حالياً للوصم بالغباء الشديد وماشابه ذلك من المعاني مثل idiot, moron, simpleton
وغيرها لا يعلم أغلب الناس (حتى المختصين) أنها كانت أصلاً تستخدم كمصطلحات مهنية لدرجات مختلفة من الذكاء حسب التقدير الإكلينيكي له...ـ
وبعد استحداث مصطلح
"التخلف العقلي mental retardation"
أصبحت كلمة
retarded
من السباب المستخدمة للاحتقار.ـ
في النسخة الأخيرة من دليل تصنيف الاضطرابات النفسية
(DSM5)
تم تغيير المسمى إلى
"الإعاقة الذهنية intellectual disability"
وصدرت قوانين تحظر استخدام المصطلحات القديمة في الولايات المتحدة. ومع ذلك يعتقد البعض أن التاريخ لا محالة سيعيد نفسه أياً كانت المصطلحات الجديدة. وأظن أن تعديل أو تغيير المصطلحات العربية سيلقى نفس المصير على الأغلب وسيتم تحريف أو إساءة استخدام أي ألفاظ جديدة مع مرور الزمن...ـ
أما عن الوصمة في حد ذاتها، فهي داء يصيب الجميع.
.
الجميع!
.
لن يكون غريباً الحديث عن الوصمة في المجتمع بشكل عام...
.
لكن ما قد تجدونه مفاجئاً، أو كما أراه أنا مأساوياً، هو انتشار الوصمة بين المهنيين الصحيين والمختصين في كل مجالاته بما في ذلك ما يتعلق بالصحة النفسية!
ليس معصوماً منها الطبيب النفسي أو الأخصائي النفسي الذين يعالجان ذوي الاضطرابات النفسية والنمائية. بل هما بالتأكيد متأثران بداء يحيط بهما في كل أرجاء مجتمعهما. بالتأكيد لا يوجد أدنى شك أن شدة أثر الوصمة أقل عندهما، لكنهما غير معصومين منها وتظهر الوصمة في انحيازاتهما اللاموعية...ـ
الوصمة تُبعِد بعض خريجي كليات الطب عن التدريب في الطب النفسي، وتؤثر الوصمة على تعامل الأطباء في كافة التخصصات الأخرى مع كل من المريض النفسي وزميلهم المختص بالطب النفسي، وتُبعد بعض خريجي برامج التدريب في الطب النفسي عن بعض تخصصاته الفرعية وبعض مجالات العمل فيه...
الوصمة تخلق انحيازاً للعمل مع فئات من المرضى النفسيين وضد العمل مع فئات أخرى. وكما ينطبق هذا على الطب النفسي فهو ينطبق على المهن الصحية الأخرى المتعلقة بالصحة النفسية والاضطرابات النمائية.
لن يروق كلامي هذا للجميع من زملائي ولكنها حقيقة، ولابد من مواجهتها...
كما أسلفت، لا أشك أن من يمارس هذه المهنة لابد أن يكون قد تغلّب على الكثير من آثار الوصمة بالضرورة، لكن كونهم بشر مثل باقي البشر في المجتمع، معرّضون هم ومن يحبون ومن يعرفون في دائرتهم الخاصة للوصمة من جهة ولاحتمال الإصابة باضطراب نفسي من جهة أخرى، لذلك فلن يستطيع بعضهم أو كثير منهم التخلص من آثار هذه الوصمة عليهم.
وَمِمَّا أجده مؤلماً جداً هو أن تنمو بذرة وصمة سامة بين المتدربين في المجال، تبدأ بوصف مريض ما لزملائهم أو للمشرفين على تدريبهم بأنه "سكيز" متوقعين حتمية أن يفهم المستمع قصدهم...
أو أن توصف مريضة من ذوي اضطراب الشخصية الحدية بأنها "كلستر بي" (إشارة إلى المجموعة "ب"
cluster B
من معايير تشخيص اضطرابات الشخصية) أو "بوردرلاين" (إشارة إلى كلمة
Borderline
في
Borderline Personality Disorder)...
هنا يتم حقن هذه الكلمات بمعاني واصمة هي بريئة منها في أصلها، ويتم تمرير رسالة واصمة ولكنها خفية في التواصل المستخدِم لهذه العبارات.
ننسى عندما نقع في هذا الفخ إنسانية وفردية وذاتية هذا "الآخر" الذي يتمنى ويحق له أن نراه ونشعر به كما هو، وليس كما نعتناه...
من أصعب ما يجب على كل منا ممن يمارس المهن المتعلقة بالصحة النفسية عمله هو مواجهة ذواتنا بصدق ومعرفة أكبر قدرٍ ممكن من انحيازاتنا اللاموعية. ومتى وعَينا بانحيازاتنا علينا ألا نكتفي بالوعي بها، بل مجاهدتها سراً وعلانية، والعمل على التعامل مع جذور تلك الانحيازات للتخفيف من أثرها بقدر الإمكان...ـ
تطلعنا لممارسة هذه المهن دليل تقديرنا وتبجيلنا للنفس البشرية ومعرفتنا بقيمة الحياة الذاتية والعلاقات الاجتماعية والخبرات المتراكمة التي تبني شخصية الفرد ومكامن الوهن وقابلية المرض التي لا يوجد معصوم منها. ممارستنا للمهنة دليل تراحمنا وتعاطفنا وتشاعرنا بمعاناة الآخر...ـ
لكن كل ذلك يمكن أن تشوبه الوصمة وتحيد به انحيازاً لصالح أو ضد فئة ما أو مجال ما من مجالات عملنا. فلابد من الحرص على رقابة الذات بشكل متواصل، ولابد من أن نتقبل مراجعة زملائنا ونقدهم لنا إن لاحظوا أثراً للوصمة فينا ولابد أن نعمل جاهدين على برامج التوعية ليس فقط للمجتمع بل لنا أيضاً.
والله من وراء القصد