ـ#التوحد
تُرى ماذا يظن من لا يعلم ما هو #اضطراب_طيف_التوحد أنه معنى التسمية؟ والتي هي محاولة للترجمة إلى العربية للمصطلح الإنچليزي
(autism)
المشتق من الكلمة اليونانية
(autos)
والتي تعني "الذات". اشتقاق الكلمة يُقصد به ميول الشخص للعزلة عن الآخرين. ولم يكن الاضطراب الذي نعرفه أول استخدام للكلمة!ـ
يغلب الظن أن أول استخدام للكلمة كان عام 1911 لوصف ظاهرة في اضطراب الفصام تصف نوعاً ذهانياً من العزلة الشديدة والانشغال بالمؤثرات الذاتية، أطلقه يوجين بلُويْلر، والذي كانت لتسميته لاضطراب الفصام (الشيزوفرينيا أو السكيزوفرينيا) ووصفه للمرض أثراً عميقاً على تاريخ الطب النفسي
ويعني ذلك أن الكلمة لم تكن لوصف اضطراب مختلف عن الفصام، وإنما بعض ظواهر الفصام. وبعد بلويلر جاء يوجين مِنْكاوْسْكي، والذي وصف الفصام بعمق ودقة بالفرنسية ووصف ما أسماه بلويلر بالتوحد بأنه محور الفصام وأهم ما يُنتج الأعراض الفصامية، وأنه ليس ميولاً للعزلة، وليس مجرد انشغال ذاتي
منكاوسكي وصف توحد ذوي الفصام بأنه انعدام أو نقص في القدرة على الاتصال مع الواقع العاطفي والاجتماعي حول المريض. أي أنه وصف إعاقة في القدرة على إدراك ما يحدث عاطفياً والانفعال التلقائي (اللامَوْعي) والذي ينتج عنه التواصل الاجتماعي السويّ، وليس ميولاً لعدم الانتباه لذلك التواصل وحسب
لذلك كانت الكلمة في بداية القرن العشرين تصف ما يمكن تسميته ب"التوحد الفصامي". واستمر استخدامها بهذا المعني لأكثر من ثلاثين سنة. خلال هذه الفترة لوحظ وجود نادر جداً لاضطراب الفصام الذي يبدأ في الطفولة أو بداية المراهقة (بينما يبدأ الفصام غالباً في آخر المراهقة أو العشرينات من العمر)ـ
وقد مهّد كرَيپلِن، أول من وصف الفصام بشكل منظم (وأسماه "الخرف المبكر") لما قام به بلويلر ومنكاوسكي، حيث وصف في عام 1906 الفصام ووصف حالات ابتدأت أعراضها في بدايات المراهقة، فزرع بذرة مفهوم امتداد الفصام للطفولة وإن لم يصف أعراضاً تتقاطع مع ما نعرفه الآن باضطراب طيف التوحد
ظهر كذلك وصف لاضطرابات في تكوين الشخصية لا تصل لدرجة نشوء مرض ذهاني ولكنها تتصف بالعزلة الاجتماعية وضعف القدرة على تكوين علاقات وفيها غرابة وشذوذ في التفكير والمعتقدات والاهتمامات، مما أظهر تسميات لهذه الاضطرابات مشتقة من كلمة الفصام: الشخصية الشيزويدية (الانعزالية) والشخصية الفصامية
في عام 1943 وصف ليو كانر 11 حالة أطلق على اضطرابهم "الاضطراب التوحدي في الاتصال الوجداني". وصفه بأنه نقص خَلقي وُلِد به الطفل في القدرة على تكوين علاقات. الحالات التي وصفها كانر لم تكن من ذوي الإعاقات المعرفية الشديدة، ولكن كانت الأعراض اللغوية والسلوكية والاجتماعية شديدة
استخدام كانر لكلمة التوحد لم يكن لأنه ظن بوجود علاقة بين الحالات التي وصفها وبين الفصام. إلا أن استخدامه للكلمة أوجد انطباعاً بالاستمرارية بين المرضين، وحيث أن أعراض حالاته كانت شديدة وذات نشوء في الطفولة المبكرة وكان الظن بندرة هذه الحالات، ظهر فهم بأن التوحد هو فصام طفولي
في الستينات من القرن العشرين تزايد الخلط بين المفاهيم. ثم في السبعينات، وبعد عقود من ملاحظة النماء الطبيعي لدى الأطفال، وصفت مارچريت ماهلر مرحلة نمائية طبيعية في الأسابيع الأولى من عمر الطفل(من الولادة الى شهر أو شهرين) لايكون لدى المولود فيها قدرة التواصل العاطفي المتبادل
ماهلر أطلقت تسمية "التوحد الطبيعي"على هذه المرحلة النمائية، والتي يُفسّرها غالباً تأخر نماء القدرة على إنتاج التعبيرات وعدم وجود تفريق دقيق بين المشاعر المختلفة التي يمر بها الطفل.لكن الدراسات اللاحقة أظهرت أن الطفل على الرغم من ذلك شديد الاهتمام بالتواصل العاطفي في تلك المرحلة
إلا أن كل هذه الاستخدامات المختلفة لذات الكلمة أصبح سبباً في اختلاط المفاهيم التشخيصية. في منتصف السبعينات بدأت الدراسات على "الفصام الطفولي" تُظهر وجود فئة من الأطفال تبدأ أعراضهم في بداية حياتهم (السنتين الأولى) بينما بدأت أعراض الباقين بعد السادسة من العمر...ـ
وكانت أعراض الفئة التي بدأ المرض لديهم بعد السادسة أقرب بكثير للفصام الذي يصيب الكبار، بينما لم توجد أوجه شبه واضحة بين الفصام وبين أعراض الفئة الأولى. أدى ذلك إلى أن وضع مايكل رَتَر معايير لتصنيف "التوحد الطفولي" عام 1978، مفرّقاً بينه وبين الفصام، بعد تلخيصه للأدبيات العلمية
وكان وصف رَتَر أساساً لظهور معايير تشخيصية لاضطراب التوحد تُفَرّق بينه وبين الفصام في النسخة الثالثة من الدليل التشخيصي الإحصائي
(DSM-III)
بعد أن أهملته النسختين الأولى والثانية منه باعتباره جزءاً من "طيف الفصام". وهنا، وربما لأول مرة، تم تسليط الضوء على التوحد كتشخيص متفرد
النسخة الثالثة أوجدت مجموعة تشخيصية جديدة: الاضطرابات النمائية النافذة (أو الشاملة)ـ
(pervasive developmental disorders)
عام 1980 وصنفت "التوحد الطفولي" منها، لكن كانت لمعايير التشخيص
عيوباً كثيرة وتم تجاوز أكثرها في النسخة الثالثة المُراجَعة من الدليل التشخيصي الإحصائي
(DSM-III-R)
في النسخة الثالثة المُراجَعة والذي صدر في عام 1987 تم وضع معايير تفصيلية دقيقة لما تم تسميته ب"الاضطراب التوحدي" وأُضيف إليه "اضطراب النماء النافذ (الشامل) غير المحدد"ـ
(PDD-NOS)
ويُعتبر أول تصنيف دقيق للاضطراب بشكل منفصل تماماً عن الفصام. في مقابل ذلك استمر نظام
(ICD)
في التخبط.ـ
النسخة التاسعة من التصنيف الإحصائي الدولي للأمراض والمشاكل الصحية المتعلقة
(ICD-9)
والصادر عام 1979 والذي استمر مُطَبّقاً إلى عام 1993 صَنّف "توحد الطفولة" ضمن الاضطرابات الذهانية ذات المنشأ في الطفولة، أي أنه صُنّف في طيف الفصام. في عام 1993 تجاوزت ذلك النسخة العاشرة
في عام 1993 صدرت النسخة العاشرة
(ICD-10)
والتي كان لها أثر كبير على التوجهات العالمية (وإن لم يعلم أغلب المختصين بذلك). كان الأثر من خلال المحاولة الحثيثة لمؤلفي النسخة الرابعة من الدليل التشخيصي الإحصائي
(DSM-IV)
لأن يصلوا لتواؤم شبه تام مع
ICD-10
وبذلك أحدثت ثورة في تشخيص التوحد
فمنذ عام 1994 ظهرت للعالم معايير تشخيصية ل5 اضطرابات نمائية نافذة (شاملة) هي: الاضطراب التوحدي، اضطراب آسپرچر، اضطراب رِت، اضطراب الطفولة التفككي، والاضطراب النمائي النافذ (الشامل) غير المحدد في مكان آخر. وكان لإدخال الثاني (آسپرچر) والأخير (غير المحدد) آثاراً ضخمة على عدد المُشخَصين
هانْس آسْپرچر وصف الاضطراب المُسَمّى باسمه عام 1944، بعد وصف كانر للتوحد الطفولي بسنة، وأسماه المرض النفسي التوحدي، لكن لم يلقى وصفه اهتماماً حتى تم أدراجه لأول مرة في
ICD-10/DSM-IV.ـ
لكن لم يستمر الاضطراب تحت الأضواء بعد صدور كل من
DSM5
في عام 2013 و
ICD-11
في عام 2018
لكن كان لظهور اضطراب آسپرچر في الساحة الفضل الأعظم لانتشار مفهوم "الطيف" فيما يتعلق بالتوحد. فقد وُجد قبل ذلك ما كان يُسمى بالتوحد غير القياسي أو الشاذ، ولكن لم يكن المفهوم واضحاً، بينما نشر
DSM-IV
مفهوم طيف التوحد دونما قصد، وأدى لتوسعة مظلة التشخيص بشكل مضطرد على مدى 20 عاماً
ومع صدور النسخة الخامسة من الدليل التشخيصي الإحصائي عام 2013، تقرر إلغاء مسمى الاضطرابات النمائية النافذة (أو الشاملة)، واستبدال التشخيصات الثلاث الأهم بتشخيص واحد: اضطراب طيف التوحد، فأزيل اضطراب آسپرچر وأُخرج اضطراب رِت من الدليل باعتباره مجرد أحد المسببات الوراثية للاضطراب
أما اضطراب الطفولة التفككي فقد اختفى من النسخة الخامسة من الدليل باعتباره نوعاً نادراً وشديداً من طيف التوحد ولكن أعراضه تبدأ متأخراً (غالباً بعد الثالثة). وهذا الاضطراب، على الرغم من ندرته، إلا أنه موجود في الواقع وهو أقرب ما في طيف التوحد للفصام الذي يبدأ في الطفولة المبكرة
وفي عام 2018 صدرت النسخة الحادية عشر من التصنيف الإحصائي الدولي للأمراض
(ICD-11)
واتفق فيه مع
DSM5
على إلغاء كل المسميات والإستبدال بمسمى اضطراب طيف التوحد، إلا أنه وضع للاضطراب تصنيفاً داخلياً بناءً على مدى وجود إعاقة معرفية أوإعاقة لغوية (بينما اكتفى
DSM5
بإضافة توصيفات بها)ـ
وبهذا، فكأنما رغب مؤلفوا
ICD-11
بإبقاء المجال مفتوحاً لإعادة إدخال تصنيفات فرعية محددة ضمن مانسميه طيف التوحد.ـ
لعله يتضح الآن لمن يقرأ هذا التاريخ مدى عمق واتساع التغييرات في نظرة الطب النفسي لطيف التوحد خلال قرن من الزمن مما جعل قابلية تشخيصه تتغير جذرياً في العقود الأخيرة
ولكن ما قد يكون خافياً على الكثيرين هو وجود علاقة تاريخية بين التوحد والفصام. ويُرجّح المؤرخون أن يكون الفصام المزمن، والذي حمل ألقاباً عديدة أشهرها الجنون، والذي يمكن فيه أن يفقد المريض قدرات التواصل الاجتماعي، هو ما وُصِف به المتوحدون قبل ظهور كلمة التوحد في القرن العشرين
وبعد أن بُذل مجهود ضخم خلال نصف قرن للتفريق بين الفصام والتوحد تشخيصياً، وهو جهد مصيب أدى لثورة في فهمنا للتوحد وتطوير التدخلات العلاجية المناسبة له ودفع الحكومات لدعم أسر ذوي التوحد وتطوير النظام التعليمي لكي يوائم احتياجاتهم وغير ذلك الكثير، فإن مفارقة عجيبة ظهرت في الأبحاث الحديثة
فقد ظهرفي الأبحاث أن كلاً من طيف التوحد والفصام يمثلان متلازمات، وليس أمراضاً محددة. كل متلازمة هي مجموعة متقاربة ومتزامنة من الأعراض لكن مسبباتها البيولوجية قد تتعدد. وفي التوحد توجد مئات العوامل الجينية ونتوقع اكتشاف مئات أخرى، وفي الفصام يوجد أكثر من مئة عامل جيني مرتبط به
وكذلك ظهر أن كل من التوحد والفصام اضطرابات نمائية. ففي كل منهما يبدأ الخلل المؤدي لنشوء الاضطراب أثناء تخلق الدماغ لدى الجنين، وتتأخر الأعراض لدى ذوي الفصام لمرحلة المراهقة أو بعدها، بينما تظهر في السنين الأولى لدى ذوي التوحد. هذه التشابهات ليست ما قصدت بالمفارقة العجيبة
بل إن المفارقة هي أن الدرسات الجزيئية على المسببات الجينية للاضطرابين وجدت درجة من التقاطع البيولوجي بينهما، حيث يشتركان في بعض العوامل الجينية التي تزيد احتمال ظهور الاضطراب. المسألة هنا معقدة يطول شرحها، وهذه العوامل الجينية كثيرة وتتقاطع مع عدد آخر من الاضطرابات النفسية
لكن ما أجده عجيباً هوالكيفية التي تغير فيها المنظورالعلمي لعلاقة هذين الاضطرابين ببعضهما. ابتداءً بالدمج الكامل للتوحد في طيف الفصام، مروراً بالانفصال التدريجي للتوحد عن الفصام، ومن ثَمّ ظهور مبدأ طيف التوحد واتساع النطاق التشخيصي له، وأخيراً بتقارب عبر دراسة مسبباتهما الحيوية
لست هنا أدّعي بأن التوحد والفصام طرفان من طيفٍ واحد من اضطراب يجمعهما. بل أقصد أن ألفت النظر لدرجة من التعقيد في تكوين المفاهيم التشخيصية التي تفرق اضطرابات بينها تقاطع، وأثر التسلسل التاريخي له، وربما توسعت في تفاصيل أخرى عن تقاطع التوحد والفصام لاحقاً
انتهى