"سبق السيف العذل"
مثل عربي قديم مشهور يقال في عدة مواضع منها التعجل باتخاذ قرار أو حكم على أمر أو شخص ما قبل ما يلزم مثل ذلك القرار من تريث وإحاطة بما يتعلق به من تفاصيل أو انتظار لما قد يغير القرار أو الحكم.ـ
ما علاقة هذا المثل بالتفكير العلمي؟
للبراهين البحثية في العلم الحديث أهمية قصوى، لدرجة أن العلماء اجتهدوا في وضع معايير لقياس مدى مصداقية تلك البراهين ورتبوا أنواع البحوث التي تنتجها في درجات من الأهمية. وقد كان القرن العشرين القرن الذي وُضعت فيه الأساسات الفلسفية التي تحدد ما هو علمي وما لا يصح أن ندعي بعلميته. ونتج عن ذلك إيجاد مناهج إحصائية تعين العلماء على قياس منتجات أبحاثهم بما يتناسب مع ذلك الأساس الفلسفي. لا أتحدث فقط عن المنحى الإمپيريقي، بل كذلك عن أهمية تمحيص الفرضيات المطروحة على أساس كونها قابلة للدحض. فإن لم توجد وسيلة لدحض الفرضية، فلا يصح نعتها بالعلمية. ولكنها تكون فرضية علمية بحاجة لبراهين بحثية إن كان من الممكن دحضها بمنهج بحثي رصين، حتى وإن لم يتم العمل على تلك البحوث بعد.ـ
نعم! الفرضية التي لم تحظى بعد ببراهين بحثية داعمة تكون "علمية" طالما كان ممكناً نظرياً تصميم بحث يدحضها.ـ
كما أن هذا التعريف الفلسفي يفرضُ منظوراً مهماً يخص إمكانية إثبات أي فرضية. علمياً، ليست الفرضية قابلة للإثبات المطلق، وإنما تحصل على براهين داعمة في حال فشل البحوث المصممَة بمنهج قد يدحضها في تحقيق الدحض. وقد تبقى مدعومة إلى أن يتطور العلم بما يكفي لدحضها لاحقاً في كثير من الحالات.ـ
هذه الحقيقة تُنسَى في كثير من الدوائر العلمية. ينصب الاهتمام على ما تمت دراسته بحثياً، وما وجد من البراهين ما يدعمه. ليس في ذلك غرابة، ولكن هذا الاهتمام يعاني من شيء من الانتقائية… حيث أنه من المرجح أن تؤدي الدراسات التي تمت على الفرضيات السابقة لتوجيه وتحديد الفرضيات اللاحقة والدراسات التي لم تتم. مما قد يؤدي لتضييق المجال البحثي بدلاً من توسيعه. هذه مشكلة من المشاكل المعرفية التي يعاني منها التوجه العام في القطاعات الصحية المُسَمّى بـ"العلاج المرتكز على البراهين". ليست المشكلة فيما يُسَمّى بأنه مرتكز على البراهين، وإنما فيما لا تتاح الفرصة لدراسته وإيجاد البراهين الداعمة له بسبب الانحصار الحادث في تمحيص الفرضيات بتحيز للفرضيات الثانوية الناتجة عما تمت دراسته. لا أدعو لإهمال التسلسل المنطقي الناتج عن البحث العلمي والذي يدعو الباحث لدراسة عواقب ونتائج ما توصل إليه، ولكني أسلط الضوء على ما يُهمل. ويخلق هذا الإهمال انطباعاً لا صحة له في كثير من الأحيان بأن الفرضيات التي لم تُمَحّص غير جديرة بذلك التمحيص أو قد يظن بعض الباحثين خطأً أنها فرضيات مدحوضة!ـ
هنالك عوامل عديدة تؤدي لتفضيل الباحث لفرضية على أخرى لدراستها تساهم في هذا الوضع بالإضافة لما سبق. سأسرد هنا بعضها.ـ
كثير من الفرضيات العلمية تُطرح قبل تواجد الآليات والتقنيات البحثية اللازمة لتصميم بحث يمكنه دحضها. ليس في ذلك غرابة. فقد يكون طارح الفرضية أو غيره قادر على تخيل منهج بحثي رصين لدراستها ولكن ذلك قد يتطلب تقدماً تقنياً لم نصل إليه بعد. وقد حدث هذا مع كثير من الفرضيات التي شملتها عديد من النظريات الفيزيائية المطروحة في النصف الأول من القرن العشرين، ولكن الأهمية العظيمة المتوقعة من تلك النظريات دفعت بعلماء الفيزياء للعمل على تطوير التقنيات اللازمة مما مكّنهم بالتالي لإيجاد البراهين الداعمة لتلك الفرضيات وفي بعض الحالات لدحضها واستبدالها أو تعديلها. وهو ما حدث ويستمر في الحدوث إلى يومنا هذا. لكن ماذا لو لم يهتم هؤلاء العلماء بكل ذلك؟ ليست قصة النظريات الفيزيائية قاعدة متكررة في كل المجالات العلمية.ـ
قد لا تكون الإشكالية في تواجد الآليات والتقنيات اللازمة بعد طرح الفرضية. بل قد تكون المسألة متعلقة بصعوبة القيام بالبحث أو بمدته أو بتكلفته في وجود فرضيات يسهل العمل على دراستها أو قد لا تكون مكلفة. وكلما ارتفعت التكلفة وطالت المدة اللازمة للبحث، كلما ازدادت الصعوبة في الحصول على التمويل اللازم له. وعندما يُخَيّر الأكادميون، فإنهم يميلون في المجمل للقيام بما يمكنهم إنجازه في أسرع وقت وبأقل تكلفة وصعوبة، وذلك لأن تقدمهم في السلم الأكاديمي يعتمد على إنتاجهم البحثي. لذلك يقل أن يغامر الأكاديميون في اختياراتهم لما يبحثون فيه قبل وصولهم لمرحلة متقدمة في مسارهم المهني. بل قد يكون الأمر صعباً حتى بعد تحقيق أهدافهم المهنية بسبب تاريخهم السابق في الأبحاث. فهم كغيرهم يميلون لانتقاء نواتج الدراسات السابقة لتكون مصدراً لفرضيات جديدة، كما أن قابلية حصولهم على الدعم معتمدة على خبرتهم في مجالهم البحثي مما يحد من فرص التوسع فيما لم يتم البحث فيه أصلاً. بالطبع توجد بينهم استثناءات كثيرة يفيد منها العلم بشدة، وهؤلاء قلّة تميزوا بخليط من الحظ والحنكة والقدرة على التفكير الخلاق والإبداع البحثي والمهارة في الحصول على المنح الداعمة للبحوث.ـ
إن أخذنا كل ذلك في الاعتبار، لوجدنا أن مجرد كون تدخل علاجي مدعوم ببراهين بحثية لا يعني بالضرورة أفضليته على غيره، ولكنه يكون تدخلاً علاجياً نستطيع توقع نتائجه، بينما لا نستطيع الجزم بتوقعات لنتائج تدخل علاجي غير مرتكز على البراهين. هذا هو الفرق الحقيقي بين ما يرتكز على البراهين وما لا يرتكز عليها. من جهة لا يصح أن ندعي بعدم صحة ما لم يحصل على براهين داعمة بسبب قلة البحوث أو انعدامها، ومن جهة أخرى لا يصح في الممارسة الصحية أن ننصح بتدخلٍ لا نعلم ما يمكننا توقعه منه. ولكن علينا أن نحاول قدر وسعنا أن لا نهمل القيام بالبحوث اللازمة التي تمكننا من تمحيص تلك التدخلات، خاصة لو كانت الفرضيات التي تستند عليها "علمية"، أي قابلة للدحض بحثياً. كما يجب علينا أن لا نصل لقناعة غير ذات مرونة بأن ما يرتكز على البراهين مما نلجأ له من التدخلات العلاجية قد حُسم أمره وتم إثبات الفرضيات التي يستند عليها بشكل نهائي قاطع وللأبد.ـ
لا ثابت في العلم الحديث سوى شكوكيته وفضوله اللامنتهي للبحث عن المزيد. الركون لما نعرفه قد يؤدي للجمود ويحول دون التقدم واكتشاف ما لم يُكتشف بعد. ولكن الأدهى من ذلك هو أنه قد يصيبنا بتحيز يمنعنا من قبول الجديد أو من دراسة الفرضيات التي تنتظر من يختبرها. وهذا بالضبط ما أردت التحذير منه في بداية هذا المقال بذكر ذلك المثل العربي القديم. يحكم كثيرون على ما لم يُختبر بحثياً وكأنهم على علم بما ستنتجه البحوث التي لم تتم أصلاً. يظنون بأن غياب تلك البراهين دليل على فشل الفرضيات أو ضلالها. بل قد يتمسك هؤلاء برأيهم متحيزين لما ركنوا إليه من العلم حتى وإن بدأت البراهين في الظهور داعمة لما يرفضون القبول به. مثل هذا الموقف يدل على كون التفكير العلمي الصحيح بحاجة لقدرة على التخلي عن القناعات المطلقة والتحلي بالشكوكية الدائمة حتى فيما سبق وأن دعمته البراهين. وليس من السهل أن يُحقق ذلك من أفنى سنوات عديدة في ممارسة ما أو في دراسة فرضية ما أو تخصص في تدخلٍ علاجي ما. لذلك نجد أن الجدال بين المتحيزين لأطراف مختلفة موجود في كل المجالات العلمية، بما في ذلك القطاع الصحي. فإن كان الجدال قائماً على أساس احترام التفكير العلمي، فقد يفيد المجتمع العلمي منه. أما إن افتقده فمن المتوقع لذلك الجدال أن يؤدي لتحزب لا ينفع بل يضر.ـ

‏والله من وراء القصد



Back to Top