في أعقاب الإعلان عن البرنامج العلمي للتحليل النفسي وصلت عدة رسائل تُعبّر عن الدرجة العالية للغموض الذي يحيط بمبادئ التحليل ومفاهيمه والاعتقادات المغلوطة بخصوصه. لكن المثير للاهتمام هو أن هذه الرسائل كانت من ذوي الاختصاص أو الدراسة أو الاهتمام بعلم النفس والطب النفسي...ـ
في الحقيقة لا تمكن إزالة الغموض من التحليل، لأنه يغوص في ما لايصل للوعي. لكن الغموض الذي يكتنف مبادئه ناتج عن كونه منهج لفهم الأمور مختلف تماماً عن المناهج الفكرية السائدة. هو نموذج/نمط فكري مختلف بشكل راديكالي. لعلي أُقَرّب لكم ما أقصد بتشبيه...ـ
تشبيه يخطر ببالي الآن غالباً (وإن كان بعيداً عن خبرات منطقتنا) هو التزلج على المنحدرات الثلجية وهي رياضة شائعة في البلاد التي يوجد فيها جبال تغطيها الثلوج في الشتاء. هذا النوع من التزلج يتطلب من المتزلج حرفياً أن يعكس ما يقوم به الجسم فطرياً في حال السقوط!...ـ
ففطرياً ودفاعياً تنقبض كل عضلات الجسم لتميل للخلف وللأعلى ولتحمي جذع الجسم والرأس بأن تجعل الأطراف السفلية أكثر احتمالاً للإصابة وامتصاصها قبل باقي الجسم. ولكن على المتزلج أن يُجبر جسمه لأن يميل للأمام والأسفل! وعليه أن يُعرض رأسه وجذعه لسحب الجاذبية أكثر من أطرافه السفلية...ـ
وهذه مهارة يصعب جداً تعلمها على كِبَر بشكل سريع (يتعلمها الأطفال بسهولة!). التحليل يطلب من الناس التفكير بعكس ما تدفعهم أنماط فكرهم وبما ينافي ما جُبلوا على أنه يحفظ لهم مسلماتهم. التحليل يسعى لتعديل أنماط تلقائية لا موعية للانفعالات العاطفية وللعلاقات مع الآخرين...ـ
التحليل يواجه المرء بدوافعه التي بذل طاقات عقله طوال حياته لإبقائها مدفونة في اللامَوْعي بعيدة عن أنظاره قبل أنظار الآخرين. التحليل يُعَرّي حقيقة الذات البشرية وهو ما تظن تلك الذات أن بقاءها متعلقٌ بسترها. وقبل ذلك كله، فإن التحليل يتحدى الفكر المنطقي الحسابي السلس والبسيط...ـ
يتحدى النمط الفكري السطحي الذي يبحث عن أسهل الحلول لإزالة الغموض والتمكين من توقع المستقبل. حقيقة القلق البشري تكمن في صعوبة احتمال الغموض والنزعة القوية لمعرفة مايمكن توقعه من نتائج وعواقب لكل صغيرة وكبيرة في الحياة. طبيعة القلق البشري هي الرغبة الجامحة في الكشف عن الغيب!...ـ
وعندما يأتي منهج فكري ليفسر نشأة هذا القلق البشري المستعين بالمنطق السهل، فإنها مفارقة لا يجب أن تكون مستغربة بأن يطرح هذا المنهج الفكري بالسطحية البسيطة عرض الحائط وأن تكون عملية تقبله وإعادة تشكيل أبجديات تفكيرنا بصعوبة الميل بالجسم إلى الأسفل في حال شبيهة بالسقوط!...ـ
لذلك لا أرى مفراً مما نشعر بأنه غموض التحليل النفسي. ولكن، كما يجد المتزلج على المنحدرات كثيراً من المتعة والتشويق في ممارسة تلك الرياضة على الرغم من خطورتها، للدرجة التي تجعل من تلك الرياضة إحدى أكبر الميزات السياحية الجاذبة للسياح، فإن التحليل له نفس الأثر على الفكر...ـ
فعندما يتحرر الفكر من نمط ما يستطيع العودة إليه بشكلٍ مَوْعيّ إراديّ حينما شاء ذلك، ويستطيع مقارعة الفكرة بضدها وتقبل الأضداد وتحمل الاختلاف، بل ربما يستطيع "التمتع" إلى حد ما بالغموض وعدم القدرة على التنبؤ بما يسعى لمعرفته. كيف لذلك القلق الوجودي أن يجد موطأ قدم إن تحقق ذلك؟