أوجه هذا المقال بخاصة لممارسي العلاج النفسي والمتدربين فيه والمهتمين بالتدريب على العلاج النفسي الديناميكي/التحليلي أو التحليل النفسي. المقال عن مهارة يندر أن توصف في الكتب أزعم أنها محورية في العملية العلاجية...ـ


في الحقيقة ما أرمي لوصفه هو الاستماع بطريقة فنية معينة كمهارة أساسية في التحليل النفسي والعلاج النفسي التحليلي…ـ
ليس الاستماع هنا مجرد الانتباه لكل كلمة تُقال…ـ
وليس مجرد الانتباه لكل تواصل غير لفظي يتم أثناء الحديث…ـ

بل إن الاستماع بعمق يختلف عما قد يتوقع القارئ ولا يعني على الإطلاق "التركيز" على ما يقال!ـ

ليس من السهل وصف هذه المهارة، والتي هي من الفنيات العلاجية التي تستعصي على كثيرين ممن يمارسون في التخصصات النفسية المختلفة، على الرغم من كونها، في الحقيقة، قابلة للاكتساب لدى أغلب من يحاول ذلك ويجتهد فيه، وبخاصة إن توَفّق في الحصول على إشراف مفيد أثناء التدريب واستطاع أن ينفك من أغلال التلقين و/أو ما استقر في مُخيّلته من توقعات لماهية العلاج النفسي.ـ

لكي نفهم ماهية الاستماع بعمق، لعلنا نحدد أولاً ما يتم الاستماع له…ـ

في أي تواصل بين اثنين، وبشكلٍ أوضح ما يتم بين المريض والمعالج النفسي، توجد التيارات المتوازية التالية:ـ

١- المحتوى اللفظي لما يقوله المريض. ليست مجرد كلمات بالإمكان كتابتها، ففي خفايا المحتوى اللفظي السطحي توجد معاني مجردة من الألفاظ وأنماط تعبيرية وإخفاء لمعاني عن الظهور وأدلة على آليات الدفاع المستخدمة وغير ذلك…ـ

٢- المحتوى غير اللفظي، والذي يتم إيصاله من خلال نبرة الصوت، ومدى تباعد الكلمات، وتغيرات مستوى الصوت، ولحظات الصمت، وتعبيرات الوجه، وحركة العيون، ولغة الجسد. هو محتوى ينقل حقيقةَ الوضع الوجداني للمريض والتغيرات العاطفية التي يمر بها، إضافة إلى محتوى من المعلومات التي تؤيد أو تخالف المحتوى اللفظي. هذا التيار، كالتيار الذي سبقه، تيار يحتوى "معلومات"، ويمكن لها أن تكون مَوْعيّة لدى مستقبِلها (المعالج). لكنه، كذلك، تواصل يحتوي من الرسائل الخفية التي تنتقل من شخصٍ لآخر دون تدخل أو تحكم من الإرادة المَوْعِيّة، وتوجد بسببها قناة تواصل بين اللامَوْعي لدي كل من طرفي الحوار…ـ

٣- ما يحدث من ديناميكيات الفعل وردة الفعل ومن ثَمّ ردة الفعل التالية وهكذا دواليك بين طرفي الحوار، ولما لهذا التفاعل المتبادل من سمات لفظية وغير لفظية وسلوكية وعاطفية. ويشتمل هذا على الفعل وعلى ما قد يسميه بعضنا بـ "اللافعل"… فليس السكون أو الصمت أو عدم الانفعال العاطفي سوى أصناف أخرى من التفاعل البينشخصي… وهذا التيار يختص بما "يحدث"، وليس ما "يُقال"… أي أنه ينظر للإجراءات وليس للمعلومات…ـ

٤- ما يظهر من خلال الدرجات المتتابعة في البعد من ملاحظة ما يحدث بشكل نمطي بين الطرفين أو بشكل يروي رواية معينة أو يوصل رسالة خفية… فقد يظهر نمط لما يحدث خلال جزءٍ من الجلسة، وقد يظهر نمط لما يحدث في الجلسة بكاملها وما يحيط بها (بدايتها ونهايتها)، وقد يظهر نمط لبعض ما يحدث عبر عدد من الجلسات، وقد يظهر نمط لبعض ما يحدث عبر تاريخ الجلسات من بداية العلاج وحتى الجلسة الحالية… ويشتمل ذلك على تحولات وتغيرات وتموجات تكوين العلاقة العلاجية بين المريض والمعالج… وهذا من التيارات التي يتميز التحليل النفسي والعلاج الديناميكي/التحليلي بتوجيه الانتباه إليه… وهو تيار إجرائي كذلك وليس معلوماتياً…ـ

٥- ما يثيره محتوى الجلسة، سواءً المحتوى اللفظي لما يقوله المريض أو ما يصاحبه من المحتوى غير اللفظي، في عقل المعالج من معاني وذكريات ومشاعر مَوْعيّة، كثير منها يبدو ذو ارتباط مباشر بذلك المحتوى اللفظي… وهذه من الأمور التي يختص بالانتباه إليها التحليل النفسي والعلاج النفسي بشكل عام والديناميكي/التحليلي منه بشكل خاص…ـ

٦- ما يثيره المحتوى غير اللفظي والرسائل اللامَوْعية بين الطرفين في عقل المعالج من مشاعر وأحاسيس جسدية وتخييلات وتصورات وذكريات ومعاني وما قد يشبه أحلام اليقظة… تنشأ تلقائياً وليس للإرادة دور فيها سوى السماح بنشوئها... قد لا يبدوفي بعضها أو كثير منها ارتباط مباشر بمحتوى التواصل… يتطلب الانتباه لهذا التيار درجة من الحرية لـ "شرود التركيز” والسماح بتَداعي الخواطر لدى المستمع… وتوجيه الانتباه لهذا التيار على وجه الخصوص قد يكون في نظري أهم ما يميز التحليل النفسي والعلاج النفسي التحليلي وكثير من أنواع العلاج الديناميكي عن غيرها من أنواع العلاج النفسي… ليس من الممكن لمن يُسَخّر كل تركيزه على المحتوى المعلوماتي ولا حتى الإجرائي أن يعي ما يحدث في هذا التيار، فالانتباه له ليس مما يتم طبيعياً في التواصل البشري المعتاد… بل يجتهد البشر بشكلٍ لاموعيّ لكي لا ينتبهوا لما يحدث في هذا التيار، وذلك بأساليب عدة منها إغلاق المساحات المفتوحة وملء الفراغات والاندفاع في التفاعل وخلق العادات والأنماط التقليدية في التواصل الاجتماعي وغير ذلك من الأساليب التلقائية…ـ

والاستماع للتيارات الثلاث الأخيرة مهارة أو مهارات لا تُستخدم عادة في التواصل اليومي بين البشر. بل قد يتم تفسير وجودها في التواصل اليومي بـ "عدم الانتباه"… يحتاج الانتباه لما يحدث في هذه التيارات لخلق مساحة تسمح لكل من الطرفين أن يستشعرا بشكل أكبر كل ما يحدث دون أن يتم إيقاف العاطفة قبل اكتمال التعبير عنها، وفراغات تسمح للمحتوى العاطفي أن ينضج من مستوى التعبير الحسي/الجسدي إلى مستوى التصوير التخيلي، و/أو من مستوى التصوير التخيلي إلى مستوى الترميز الذهني/اللغوي وتسمية المشاعر وربط المعاني والذكريات… هو بحاجة لأن يتحمّل الطرفان ما قد يصاحب هذه الرحلة من ألم وضبابية و "لايقينية" واجترار لذكريات قد يكون العقل قد اجتهد في دفنها، وأن يصبر المعالج مكافحاً رغبتَه في التدخل و"عمل شيءٍ ما" أو القيام بدور ما أو قول شيء ما، وهو بحاجة لإطلاق سراح الخيال الذي تم تقييده لأسباب مختلفة من فرد لآخر، وأن يتم كل ذلك في إطار من الاحتواء الذي تقدمه علاقة علاجية تتصارع مع كل ما يمنعها من النشوء والاستمرار والاستقرار لتوجِد من الأمان ما يكفي لحدوث كل ذلك في الجلسة العلاجية ومن ثَمّ الانتباه لتلك التيارات…ـ

لكي يكون الاستماع لما يحدث استماعاً بعمق، فإن على المستمع أن يُسَخّر نصيباً من انتباهه لكل تيار من هذه التيارات المتوازية، وأخص بالذكر التيار السادس منها. لن يكون المستمع هنا "مُرَكّزاً" على ما يقوله المتكلم، بل إن تركيز المستمع يضر بالاستماع بعمق ويُضعفه…ـ

هي مهمة صعبة للغاية على المبتدئ الذي لم يحرص على تعلمّها ووَجّه جهودَه نحو تعلم تقنيات يقوم بها في العلاج، والاستمرار فيها غير بديهي أو تلقائي حتى على المتمرس. بل تتراوح دائماً درجات الاستماع بعمق لدى المعالج من العدم إلى التمام بغض النظر عن كفاءته… إنها بحاجة لأن يُهَدّئ المعالج ما يدور بخلده من اهتمامات بأمور ربما يتوقعها من ذاته… أن تصمت أصوات مخاوفه ومصادر قلقه… أن يكبح دوافع التحكم بما يحدث في الجلسة… أن يمنع ردود الفعل الاجتماعية أو حتى المهنية المعتادة… أن يترك تمسّكه بأولوياته أو حرصه على تحقيق هدف العمل بتقنيات علاجية معينة على وجه معين… أن يسمح للمشاعر أن يتم التعبير عنها وإن استجْدت التخفيف منها… أن يغوص في تلك المشاعر ويتبحّر فيما تثيره فيه… أن يسعى دوماً لأن يستشعر خبرة الإنسان الذي يعالجه، وأن يجتهد لأن يقوم بإعقال ذات المريض وإعقال ذاته في آن واحد…ـ

قد يبدو المعالج وكأنه لا يستمع… قد تشرد نظراته عن التقاء العيون… بل قد يساعده في تلك المهمة أن يكون موقعه بخلف المريض المستلقي على الأريكة… بينما هو في الحقيقة يستمع، وبعمق.ـ

أما لماذا نفعل ذلك كله؟ وما أثر كل ذلك على ما يحدث علاجياً؟ فتلك أسئلة بحاجة لمقال آخر أو أكثر للإجابة عليها. لكن يكفي في هذا المقام أن أقول أن الفاعلية الحقيقية للتحليل النفسي والعلاج التحليلي تكمن في هذه المهارة قبل أن تنتج من المعرفة النظرية للمعالج. إنها بزعمي السر الحقيقي وراء العلاج الناجح. وعلى الرغم من التعقيد الذي قد يظهر للقارئ وجوده  في هذه المهارة، إلا أن اكتسابها ليس معقداً بقدر أنها بحاجة لأن تكون لدى المعالج درجة من الاستبصار بذاته ومعرفتها. هي بحاجة لمعالج قد درس ذاته وفهمها ويشعر بالأريحية عند الخوض في أعماقها ولا يمنعه الخوف من ظلماتها ولا يصده ذهنه عن الفسح لخياله بالطيران في أي جهة كانت… هي بحاجة لمعالج متصالح مع اللايقين، وقادر على الاستقرار وسط الأمواج العاطفية والعواصف الضبابية.ـ

لا ينجح أي معالج، مهما كانت خبرته، في الاستماع بعمق لكامل مدة أي جلسة أو في كل الجلسات. بل قد تكون العوامل التي أفرزت فترات من عدم الاستماع بعمق مما يهمه الانتباه له. وقد يستفيد من فهم ما يحدث مما يمنع الاستماع بعمق بنفس القدر الذي يستفيده من الاستماع بعمق. فليست المسألة متعلقة بـ "صحة" أسلوب المعالج، فلا يوجد برأيي أسلوب نموذجي لاتباعه، بل هي عملية حية تنمو وتتحرك وترمي فتصيب أو تخيب، فتتعلم من خبرتها وتنضج. للعملية العلاجية التحليلية حياة بمراحل وتاريخ ونجاحات وسقطات وآلام وبهجات. لكن ما أردت تسليط الضوء عليه هو الدور المحوري لهذا النوع الفريد من الاستماع في التحليل النفسي والعلاج التحليلي.ـ

والله من وراء القصد
تم القيام بحوار حول هذه التدوينة باستضافة من منصة إمعان تجدون التسجيل المصور له هنا، والتسجيل الصوتي (پودكاست) هنا
​​​​​​​الحوار تم بتاريخ 02/06/2021
Back to Top