البروفيسور جاكوب نيدلمان ، أستاذ الفلسفة
يتحدث هنا عن عن أحد كتبه بعنوان "لماذا لا نكون طيبين؟"، يحاول فيه تفسير المشاكل المعرفية (أساليب التفكير) التي تؤدي إلى السلوك الضال المضر بالمجتمع. وهذا مقطع من محاضرته التي طولها أكثر من ساعة. ـ
في هذا المقطع يشرح نيدلمان إحدى التجارب التي كان يطبقها على طلبته في الجامعة وهي ممارسة "النسخ المتطابق". في هذه العملية يقوم شخصان (في هذا المثل اثنتان من الطالبات) بمجادلة بعضهما على موضوع شائك، رأي كل منهما على النقيض من رأي الأخرى.ـ
كان يختار مواضيع من شبه المستحيل اتفاق الطرفين عليه، والمثل هنا موضوع الإجهاض في أمريكا، حيث ينقسم المجتمع لقسم يؤيد إعطاء الأم حرية الاختيار بحدود معقولة وقسم يرفض الإجهاض بكل أشكاله حتى لو هدد الحمل حياة الأم أو نتج عن اغتصاب.ـ
الشاهد أن التجربة التي يطبقها البروفيسور هي أن يطلب من طرف (رقم ١) تقديم وجهة نظره بدون أي مقاطعة، ولا يسمح للطرف الآخر (رقم ٢) بالرد أوطرح رأيه قبل أن يقوم رقم ٢ بتلخيص وحهة نظر رقم ١ بدقة عالية لدرجة أن يقتنع رقم ١ بأن ذلك التلخيص مطابق تماماً لوجهة نظره. ثم يقوم رقم ٢ بطرح الرأي المعاكس ويجب على رقم ١ أن يلخص بدقة متناهية كذلك. ـ
ما يحدث في التجربة أن محاولة التلخيص في البداية تكون متعجلة، ويرفضها البروفيسور ويطلب الإعادة عدة مرات إلى أن يكون الطرف الآخر قادرآ علي التعبير بشكل متطابق عن الرأي المناوئ. يقول البروفيسور، وأصدقه لأنني جربت وطبقت مثل هذه التجارب وإن كانت لأغراض أخرى، أن المتجادلين يكتشفان في التجربة أنهما "يستمعان" للآخر لأول مرة، على الرغم من سماعهم لتلك الآراء مرارا قبل ذلك.ـ
السبب في رأيه أنه عندما نختلف في الرأي فإننا لا نستمع حقيقة "للآخر الإنسان"، بل نستمع لما نريد سماعه لكي نتمكن من الرد أو لنؤكد لأنفسنا أن قناعاتنا صائبة وقناعاتهم زائفة. ما يحدث في هذه التجربة أن المتجادلين "يكتشفان" أن الآخر إنسان مثلهم، وأن تفكيرهم، مع اختلافه يظل تفكيرا إنسانيا له منطقه وأساسياته. يقول البروفيسور أن المتجادلين لا تتغير مواقفهم الفكرية بسبب التجربة عادةً، ولكن العجيب أن المتجادلين تتكون بينهما علاقة ودية أو صداقة تحل محل الكره والعداوة.ـ
في رأيه هذه الخاصية في التفكير البشري، والتي تم تنشيطها في هذه التجربة، خاصية الانفصال عن "الأنا" في التفكير لنتمكن من فهم وجهة نظر الآخر، تتطلب من الإنسان أن يستقبل الإنسان الآخر في عقله وذهنه كما يستقبل الإنسان الضيف في بيته، يتطلب أن يوجد الإنسان للآخر مساحة بداخله وأماناً قبل أن يستمع له. في رأي البروفيسور فإن هذه الخاصية هي أول خطوة في مشوار الأخلاق والقِيَم والوازع الخلقي، لأنه لا يمكن للإنسان أن يتفادى ما هو خبيث للآخرين دون القدرة على احتواء الآخرين وبالتالي الإقرار بإنسانيتهم والتعرف على أفكارهم ومشاعرهم.ـ