(Karl Popper)كارل پوپر
كان أحد أهم فلاسفة العلم في القرن العشرين وكان لفرضياته عن العلم والإمپيريقية أثر كبير على العلم الحديث، خاصة نقده لما يسمى
(Positivistic Logic) المنطق الإيجابي
(Falsifiability) وطرحه لمبدأ قابلية الدحض
سعياً لتحديد ما يمكن تصنيفه بأنه ”علم“ و ”المنهج العلمي“ (والمقصود بالعلم هنا العلوم التجريبية الحديثة). هناك الكثير من النقد لفكر پوپر ولكن ليس ذلك محل اهتمامي في هذا المقال.ـ
(Pseudoscience) “عندما أراد پوپر وضع مثال عما أسماه ”شبيه العلم
اختار لذلك التصنيف التحليل النفسي أو، على الأصح، النظرية التحليلية كأحد الأمثلة لكونها على حد تعبيره نظرية تتضح فيها معالم التشبه بالعلم دون تحقيق المعيار الإمپيريقي اللازم لتصنيفها علماً. نقد پوپر مبني على شرط قابلية الدحض التي وضعها معياراً للفرضيات العلمية. قابلية الدحض مبدأ أساسي في اختبار أي فرضية بأسلوب علمي تجريبي. حسب پوپر، لكي تكون الفرضية "علمية" فإنها يجب أن تكون قابلة للخضوع لاختبار تجريبي يمكن نظرياً لنتيجته دحض الفرضية. سأحاول فيما يلي سرد الكيفية التي توصل بها پوپر لهذا الاستنتاج باختصار، ومن ثم سأقوم بسرد الرد عليه، وبالتالي دحض استنتاجه.ـ
فهم پوپر للنظرية التحليلية كان منحازاً لتأثره بنظرية أخرى وفهمه لما يحدث في التحليل كان مبنياً على قراءة سطحية لما توصل إليه التحليل في الثلث الأول من القرن العشرين.ـ
كان پوپر في البداية معجباً بالتحليل النفسي ولكنه كان معجباً بنظريات
(Adler) آدلر
على وجه الخصوص حيث أنه عمل مع آدلر في ڤيينا. ولكنه لاحظ أن آدلر وأتباعه وغيرهم من المحللين النفسيين كانوا يفسرون "كل شيء" بناءً على النظرية التحليلية. للمعلومية، فإن آدلر انشق عن اتباع فرويد وتخلى عن تسمية فرضياته بـ ”التحليل النفسي“ واختار عوضاً عنها تسمية ”السيكولوجية الفردية“ـ
(Individual Psychology)
أدى الحماس الشديد للنظرية التحليلية في الأجيال الأولى من المحللين، وبخاصة آدلر، إلى إدعاءات تميل إلى كونها اعتقادات يقينية بصحة تفسيراتهم وقدرتها على تفسير الشيء وضده في آن. لم تكن في ذلك السلوك مساحة لفشل النظرية. إلا أن ذلك السلوك كان ظاهراً بشكل كبير عند آدلر وأتباعه، حيث أراد آدلر تفسير كل ظواهر النفس البشرية من خلال عقدة النقص التي طرحها، وكان ذلك سبباً رئيساً في خلافه مع فرويد (والذي قال في رده على آدلر ”لم يدّع التحليل النفسي أبدًا أنه يعطي نظرية كاملة [أي معصومة من الخطأ وشاملة] عن الحياة النفسية للإنسان“). أسلوب آدلر وأتباعه، وقليل من المحللين النفسيين، كان يفرض مفهوم النظرية على ما يجدونه من ملاحظات في العيادة. وبالتالي يجد المعالج إثباتاً لنظريته في كل الأحوال. وقد يتم ذلك على شكل يشبه الإيحاء. افترض پوپر أن فرويد يتبع الأسلوب ذاته. عندما أراد پوپر اقتباس ما يثبت دور الإيحاء في نظريات فرويد، اقتبس جزءاً من نص قديم له لو أنه اقتبسه بكامله لوجد رفض فرويد القاطع للإيحاء، والذي طالما حاربه خلال عمله على إنشاء التحليل النفسي ابتداءً بنبذه للتنويم المغناطيسي في بداية عمله في المجال.ـ
وبشكل عام، كانت النظريات التحليلية تتمركز حول وصف ظواهر غير محسوسة بالحواس ولم يمكن وقتها القيام بقياسها بشكل موضوعي. هذا أمر لا مفر منه عند وصف ظواهر "ذاتية" داخلية، ولا يمكن إزالة هذا العامل بالكامل، حتى باستخدام المقاييس النفسية الحديثة. لذلك يبقى دائماً الاحتمال بأن ما تتحدث عنه النظرية التحليلية (وأي فرضية عن ظواهر ذاتية) ستفشل في تحقيق معيار پوپر بشكل كامل لصعوبة إيجاد منهج تجريبي يمكنه نظرياً أن يدحضها.ـ
كما أن نقده تأثر بما وصل إليه عن تقنية التفسير في العملية العلاجية التحليلية. حيث أن اكتشاف الإنقال وتحليله في العملية العلاجية وذلك عن طريق تقنية التفسير كان المحور الأساسي للتحليل وقتها ولا يزال ذا أهمية كبيرة اليوم، ولكن نشأت بشكل متوازٍ مفاهيم متعلقة بهذا الإجراء منها مقاومة الإنقال ومقاومة تفسيره. بدا لپوپر هنا أن المحلل وضع نفسه في منصب الوصول لافتراض استقراء يستطيع الدفاع عنه بغض النظر عن ردة فعل المريض، مما يزيل قابلية دحض افتراضه. علماً بأن فهم پوپر هنا تأثر بما عرفه عن اتجاه آدلر في التفسير، والذي يعتمد كثيراً على الاستقراء (وليس الاستنباط أو الاقتطاع كما هو الواقع في التحليل النفسي).ـ
يشبه هذا الوصف لما يحدث واقعياً في التحليل النفسي صورة فوتوچرافية تلتقط جزءاً من ثانية في قصة تتطلب مشاهدة عشرات الساعات من الڤيديو لمعرفة حقيقة ما يحدث في تلك اللحظة. تنبني استنباطات المحلل في حقيقة الأمر على تراكم للبراهين التي تتم ملاحظتها من خلال العملية العلاجية على مدى طويل، يستخرج المحلل من تلك الملاحظات أنماطاً ليست ظاهرة للخاضع للتحليل ولكنها مكونة من براهين وليست خيالات أو إيحاءات. وعملية التفسير وعرضها وردة فعل الخاضع للتحليل تصبح هي كذلك إحدى مكونات تلك الأنماط. لذلك فإن استنباطاً واحداً يندر أن يكون أكثر من خطوة واحدة في مشوار الميل. هذه العملية التراكمية تؤدي خلال الرحلة العلاجية لاستبصار متنامٍ عن الرواية الذاتية التي توجد تناسقاً وتكاملاً وتماسكاً لما كان مبعثراً غير مفهوم وغير متسق. وليست النتيجة هي أن تلك الرواية الذاتية تعبير عن الحقائق الواقعية الموضوعية التي مر بها الخاضع للتحليل ويمكن إثباتها بعيداً عن الخبرة الذاتية للمريض، وإنما هي الواقع الذاتي وهو ما يهم في حقيقة الأمر من المنظور العلاجي. ليس المحلل محققاً يسعى لإثبات واقع موضوعي قابل للإثبات أو النفي. ويعتمد التفسير على الاستنباط أو الاقتطاع من براهين، وليس الاستقراء لما لم يوجد له برهان بعد. يسعى المحلل لتفادي الإيحاء باذلاً في ذلك الجهد العظيم.ـ
لذلك فإن في ظاهر استنتاج پوپر قليل من الصحة ويختفي في باطنه كثير من الضلال. هذا عدا كون ما اعتمد عليه في الوصول لقناعاته مغايراً وبشكلٍ كبير عن ما يجري في التحليل النفسي المعاصر. حيث أن العملية العلاجية أكثر تعقيداً بكثير من مجرد إعادة نسج رواية الواقع الذاتي من خلال استنباطات وتفسيرات وحسب. إلا أن شرح ذلك بحاجة لمقالات أخرى.ـ
كما أن پوپر افترض عدم قدرة النظرية التحليلية للخضوع للمراجعة النظرية أو للتجارب المخبرية القادرة على دحضها. وهو العكس تماماً مما حدث خلال ما يزيد من قرن من الزمن منذ طرحت فرضياتها الأولى. فمن جهة تطورت النظريات التحليلية ولا تزال تتطور في سعيٍ متواصل للوصول للأفضل والأشمل والأدق والأكثر فائدة. تم تعديل الكثير من فرضيات سيچموند فرويد وتم رفض بعضها وإحلالها ببدائل أخرى وتمت إضافة مجموعة كبيرة من الفرضيات التي لم يتطرق لها فرويد أو لم يتوسع فيها. هذا التطور المتواصل بحد ذاته دليل على أن المحللين النفسيين وجدوا قصوراً في النظريات المطروحة في بداية تاريخ التحليل النفسي من خلال ممارساتهم وملاحظاتهم العيادية، أي أن الفرضيات لم تكن قابلة للدحض وحسب، بل تم بالفعل دحض بعضها. ومن جهة أخرى نجد أن الدراسات المخبرية في العلوم العصبية الدقيقة التي تدرس وظائف الدماغ وتربط مؤشرات تلك الوظائف بالعمليات العقلية بدأت منذ نهاية القرن العشرين في الوصول لنتائج مؤيدة لعدد كبير من الملاحظات والتوصيفات التي انفردت بها النظريات التحليلية. بعض هذه الدراسات اقترحت تعديلات على الفرضيات وبعضها لم يستطع إثبات بعض الفرضيات. كما أن الدراسات التي وصفت النماء النفسي ومراحله وأثر البيئة العاطفية والتربوية عليه وطبيعة تكوين العلاقات بين الفرد والآخر أضافت كثيراً من الدعم وبعضًا من الدحض لفرضيات تحليلية عديدة، بل وأدت لطرح فرضيات جديدة أو معدلة. أي أن معيار پوپر تحقق فيما يخص نسبة كبيرة من فرضيات النظريات التحليلية النظرية. أما فيما يخص طبيعة العملية العلاجية ونتائجها، فإن الدراسات التي أجريت خلال العقود الثلاثة الماضية ويتم إجراؤها حالياً لا تفتأ في إلقاء الضوء على تفاصيل ما يحدث في التحليل النفسي من منظور لغوي ونفسي وفيسيولوجي عصبي ويتم الإفادة من هذه الملاحظات في تطوير الأساليب العلاجية التحليلية. ولن يسعني الحديث هنا عن التراكم المتواصل للبراهين على فاعلية العلاج التحليلي في علاج الاضطرابات النفسية، بل وتفوقه في بعض الدراسات على غيره من الاختيارات العلاجية.ـ
في حقيقة الأمر، فإن كل هذه الدراسات تأخرت في الحدوث لعقود من الزمن، وساهم في ذلك عزوف كثير من المحللين عن الأبحاث التجريبية، وهو أمر له خلفيته التاريخية التي ربما أتطرق إليها في مقال آخر. إلا أن هذا التأخير ساهم في رسوخ فكرة پوپر عن التحليل النفسي حيث أن نسبة كبيرة من العلماء في علم النفس اتخذوا مواقف مضادة للتحليل النفسي أو تجنبوه نتيجة وجود بدائل علاجية أخرى كانت تخضع سريعاً للأبحاث التي تسعى لدراسة فاعليتها.ـ
لذلك كله، فإنني أدعو من يود دراسة مدى ”علمية“ التحليل النفسي أن لا يتوقف عندما ذكره پوپر. برأيي، ليس التوقف عند ذلك منهجاً علمياً.ـ