أما البراهين المستقاة من الدراسات الطولية، وهي التي تتابع الحوامل لترى إن كان للعامل المدروس أثراً على المواليد، وهو نوع من الدراسات أكثر قدرة بكثير على تحديد مدى وجود علاقة سببية، خاصة إن تم فيها الأخذ بالاعتبار كل المتغيرات التي يمكنها المساهمة في النتيجة المدروسة. هنا دراسة طولية لحوالي 2.5 مليون حامل، لم تجد أي ارتباط بين استخدام الأسيتامينوفين/پاراسيتامول وبين الاضطرابات النمائية (طيف التوحد، الإعاقات الذهنية، فرط الحركة وتشتت الانتباه). الدراسة محكمة ومنشورة في إحدى أرقى الدوريات العلمية ومنهجيتها عالية الجودة وأخذت في الاعتبار العوامل الجينية والبيئية المشتركة وصُممت لكي يُمكنها الكشف عن وجود ارتباط سببي ولا يبدو فيها ما يثير الشكوك من الانحيازات، وتم تمويلها من المعهد الوطني للصحة (الأمريكي) دون أي تمويل من جهات ربحية. وجود دراسة مثل هذه (وليست الوحيدة، حيث وجدت دراسة أخرى النتيجة ذاتها) وحده كافٍ لإدخال كم ضخم من الشك في صحة التصريحات التي أثارت كل هذا الجدل.ـ
لا!ـ
الحذر واجب قبل وصف أي دواء أثناء الحمل. نقوم كأطباء بموازنة احتمال الخطر الناتج من استخدام الدواء مع احتمال الخطر الناتج من عدم استخدامه قبل تقديم الرأي للحامل بخصوصه، وتدخل في تلك المعادلة عوامل كثيرة لا يمكننا حصرها هنا. ولكن مما يتعلق بخافض الحرارة مثلاً، فإن ارتفاع حرارة الأم ضار بالجنين! وبالفعل، توجد براهين تشير إلى أن بعض مسببات الحمى مرتبطة بالتوحد، من أهمها الإنفلونزا. وقد تكون الحمى نفسها ذات علاقة بالتوحد بغض النظر عن المسببات. وهنا بالمناسبة مصدر للربط الخاطئ بخافض الحرارة: المصابات بالحمى هن من يتناولن الخافض وإن لم يتم الفصل بحثياً بين الأمرين سيسهل الوصول لارتباط إحصائي مضلل بالدواء بدلاً من االحمى.ـ
وفي هذه الحالات تحديداً، إن ثبتت بالتحاليل المخبرية المعقدة، فإن وصف دواء لوكوڤورين منطقي وقد يؤدي لتحسن جزئي في بعض الأعراض المصاحبة للتوحد لدى بعض المصابين به. لكن هذه الأمراض نادرة وتصاحبها أعراض عصبية أخرى كثيرة إضافة للسمات التوحدية. تعميم وصف الدواء لذوي التوحد لا توجد براهين بحثية كافية لتأييده ولايزال بحاجة لسنين من الدراسات لمعرفة مدى فائدته لذوي التوحد بشكل عام، كما أن الدراسات المتوفرة حالياً صغيرة ولم تجد آثاراً علاجية مقنعة بعد. وكأي دواء، فإنه لا يخلو من مضار وأعراض جانبية ، هذا عدا ما لا نعلمه عن الآثار طويلة الأمد أو احتمال التأثيرات السلبية على النمو لدى من لا يوجد لديهم مرض نقص الفوليت في المخ.ـ
وقد صرحت الجمعيات العلمية المرجعية المتخصصة في بيانات نشرتها عقب التصريحات المثيرة للجدل بأن تلك التصريحات مضللة وبأن المجتمع العلمي والطبي يؤكد على كون خافض الحرارة (أسيتامينوفين أو پاراسيتامول) آمن في الحمل ولا علاقة له بالتوحد وكون دواء لوكوڤورين بحاجة للكثير من الدراسات البحثية ولا براهين كافية لاعتماده دواءً للتوحد. كما أشارت لخطورة التلميحات التي شملتها التصريحات بخصوص لقاحات التطعيم. شملت هذه الجهات العلمية تخصصات النساء والولادة، وطب الأطفال، والطب النفسي، وطب نمو وسلوك الأطفال، وعلوم التوحد وغيرها. لم أجد جهة علمية معتبرة تؤيد أي من هذه التصريحات.ـ
أما ما قيل عن العلاقة بين التطعيمات والتوحد، فهذا موضوع قد أُشبع دراسة، وواضح فيه أن لا علاقة البتة بين التطعيمات والتوحد. وقد سبق أن كتبت في ذلك الكثير. ويمكنني أن أختصر الحديث هنا على التالي: البراهين التي ربطت التطعيمات بالتوحد مُختلقة ابتداءً وما تلى المختلق كان ضعيفاً. في مقابل ذلك توجد دراسات في مجموعها تابعت عدة ملايين من الأطفال ولم تجد ارتباطات. بل كان عدد من تم تشخيصهم بالتوحد أعلى لدى من لم يحصلوا على التطعيمات وذلك لأن كثيراً من الأُسَر التي رُزقت بطفل توحدي تفادت التطعيمات في الأطفال اللاحقين، والذين هم بطبيعة الحال أعلى احتمالاً لأن يكونوا من ذوي التوحد لأسباب جينية/وراثية.ـ
بالإضافة إلى الضرر المباشر المتوقع نتيجة لهذه التصريحات المضللة على الحوامل اليوم وفي المستقبل القريب، وعلى الأطفال الذين يُحرمون من اللقاحات الواقية، فإن في التصريحات توجيه للوم بشكل ضمني للأمهات اللواتي يعتنين بأطفال على طيف التوحد. وكأنهن تسببن في الاضطراب بسبب تناولهن لخافض الحرارة أثناء الحمل أو بسبب موافقتهن على تطعيم أطفال...ـ
نحن بحاجة للتراحم مع ذوي التوحد وأمهاتهم وأهليهم، بدلاً من إلقاء اللوم عليهم. كما أن نشوء الاضطراب، أيّاً كانت العوامل التي نظن أنها ساهمت في ذلك، فليس بالإمكان تحميل المسؤولية على الأم أو الأسرة.ـ
وأتمنى من زملائي الأطباء، سواءً في تخصصات النساء والولادة أو الأطفال أو الطب النفسي أو طب الأسرة أن تتسع صدورهم لتساؤلات الحوامل والأمهات وذوي أطفال طيف التوحد، وأن يتفهموا قلقهم الناشئ عن المعلومات المغلوطة الشائعة، وبخاصة بعد صدورها من جهات سياسية مهمة، وأن يخصصوا من الوقت ما يكفي لشرح البراهين العلمية المتعلقة بالأمر حتى يتمكن مراجعوهم من اتخاذ القرارات بناءً على الفهم الصحيح لحالة علمنا بالمخاطر المحتملة من الأدوية ولقاحات التطعيم. ـ
والله من وراء القصد