وردني تساؤل حول موضوع طالما تم تناوله في الوسط الطبي: ماذا لو لم يلتزم الطبيب بما ينصح مريضه به؟ أكثر الأمثلة استخداماً في هذا التساؤل هو نصيحة الطبيب للمريض بالتوقف عن التدخين بينما يستمر الطبيب في ممارسة تلك العادة. في حقيقة الأمر، مثل هذا التساؤل شائع في كثير من التخصصات الصحية، ويغلب أن يتعلق بسلوك بشري يبدو للسائل أو لطائفة من المجتمع أنه سلوك سلبي وأن الإرادة الشخصية للفرد هي العامل الرئيس في التحكم به. أمثلة أخرى تتعلق باتباع "أساليب حياة" صحية، أنماط التغذية الصحية، ممارسة الرياضة، الحصول على قسط كافٍ من النوم، التقليل من الضغوط، الإقلال من استخدام الأجهزة الإليكترونية، وغير ذلك من السلوكيات التي لها أثر على صحة الفرد. ـ
من الممكن نظرياً أن نفهم تلك النظرة الشائعة لهذه المسألة من المنظور النمائي في المدرسة النفسية التحليلية، حيث تحدد خبرات الطفل مع أبويه معاييره القِيَمِيّة التي تشكل تكوين الضمير لديه. تلك الخبرات ليست منحصرة على أقوالهما، بل تطغى عليها سلوكياتهما التي تصبح المكوّنات الرئيسية للقوالب السلوكية والأنماط الانفعالية التي هي البنية التحتية للمنظومة الأخلاقية التي نسميها الضمير. بل نرى دوماً ظاهرة اقتداء الطفل بالفعل عوضاً عن القول؛ وإن كان اقتداءً بالكلام فهو بفعل الكلام: نبرته وتوقيته وتوجيهه والتأثير المرجو منه على الآخر وليس بالضرورة محتواه من الألفاظ. ـ
 باللاتينية. وهي مغالطة الافتراض بأن تعارض القول بحجةٍ ما مع فعل القائل بها ينفي صحة الحجة. يخالف ذلك الافتراض ما يصح منطقياً لأن أفعال القائل بالحجة ومكونات تلك الحجة أمران لا ارتباط بينهما بالضرورة، وتناقضهما قد يكون في مواضع معينة دليلاً على النفاق ولكنه ليس دليلاً على فساد الحجة. فبطلان أو صحة الحجة منطقياً يعتمدان كلياً على أساس الحجة الفكري، ويستقيم ذلك أياً كان القائل بالحجة ومهما كانت طبيعة موضوع الحجة. تظهر هذه المغالطة عادة في ما يتعلق بحجج لها ما يقابلها أو يرتبط بها في السلوك البشري. وليس من الصعوبة إدراك كونها مغالطة منطقية، حيث أنه من المتوقع للمسلم مثلاً أن يقبل حجة كافرٍ إن أثبتت وجودَ الله على الرغم من كفر صاحب الحجة، والعكس صحيح، فقد يرفض حجة مسلمٍ ينفي وجود الله على الرغم من إسلام صاحب الحجة. في الحالتين يتناقض الظاهر من سلوك القائل مع ما تدعو إليه حجتُه، وقد يدل ذلك على نفاقه، لكن ليس لذلك التناقض أن يُبطل الحجة أو يصححها طالما كان تقييم الحجة مبنياً على مكوناتها بمعزلٍ عن القائل بها. وإن عدنا لمثال النصح بالتوقف عن التدخين، نجد أن القول بضرر التدخين حجة يقول بها الطبيب ويدعمها ببراهين علمية دامغة لا تدع مجالاً للشك. لم يكن لبراهين مبنية على أبحاثٍ طبية مُحَكّمة أُجريت على مدى عقود من الزمن وانخرط فيها مئات الآلاف من البشر واتفقت مخرجاتها على وجود ضررٍ جسيم من التدخين أن تهتز مصداقيتها بسبب سلوك أحد الأطباء أو بعضهم أو حتى جُلّهم. ـ
على الرغم من الوضوح البَيّن لهذه المغالطة، فإنها تُستخدم كثيراً لتبرير رفض توجيه الممارس الصحي، وفِي المثال السابق رفض التوقف عن التدخين. بل قد يكون كثير من الرافضين على درجة من الوعي بأن في تبريرهم مغالطة منطقية جَليّة. إلا أن توافق ميولنا منذ الطفولة للاقتداء بسلوك من هم في موقع سلطة أو قيادة من جهة مع ما تميل له دوافعنا ورغباتنا من جهة أخرى أقوى من أي تأثير لتظافر الحجج والبراهين لدى كثير منا. فليس التوقف عن التدخين أمراً يسيراً كما قد يبدو لكثير من الناس. وحتى لو لم نأخذ في الاعتبار العوامل البيولوجية الفاعلة في إدمان التدخين، فإن تغيير الأنماط السلوكية الراسخة والمرتبطة بمعاني مَوْعية ولامَوْعية والمدعومة بمحفزات ومعززات اجتماعية أمرٌ لا يمكن اختزاله بالزعم أن الإرادة وحدها تكفي. فتلك نظرة قاصرة وسطحية تختصر في كلمة منظومة الكائن البشري، وهي أعقد منظومة في الوجود. فليس لأيّ منا أن يحكم على المدخن لعدم انصياعه لنصح الطبيب، بما في ذلك المدخن الذي يمتهن الطب. ـ
وأما الزاوية الأخرى التي وددت التطرق لها فهي منظور أخلاقيات المهن الصحية. ولننظر هنا لما يخفى عن وعي بعض من يرفض توجيه الممارس، أو ما يُخفيه اللامَوْعي لديهم عن إدراكهم، وهو أن طلب المرضى لتوجيه الممارس الصحي لهم ينبع أساساً وعموماً من قناعة بمنهج مهنتهم وليس من تطلع للرأي الشخصي للممارس. ولو لم يكن الأمر كذلك لما كان لتوجيهاتهم مصداقية ولما وثقنا بهم وأمِنّا لهم بأسرارنا وعوراتنا وتاريخنا وآمالنا. لا يطلب أحدُنا توجيهاً من طبيب معتقداً أن ذلك التوجيه هو ناتج ميول الطبيب الشخصية وخبراته الأسرية واعتقاداته الثقافية أو السياسية أو الدينية، بل يطلب توجيه خبيرٍ في مهنة الطب مُؤتَمن لالتزامه بمقتضيات المهنة العلمية وأخلاقيات ممارستها الموضوعية. لذلك فإن الداعم الرئيس لمصداقية أي توجيه من ممارس صحي لدى المريض هو كون المصدر ممارساً صحياً معتمداً ومرخصاً له بمزاولة المهنة. تتبع مصداقيةُ التوجيه مصداقيةَ المهنة الصحية، ولا تتبع حياةَ الممارس الخاصة. في مقابل ذلك، فإن من بديهيات ممارسة المهن الصحية أن تكون التوجيهات المقدمة للمرضى موضوعية قدر الإمكان وغير منحازة لمؤثرات شخصية، وألا تكون غير مدعومة علمياً، بل وأن تكون تلك التوجيهات مدعومة بالبراهين ومصحوبة بالشرح الوافي لما لها وما عليها لتمكين المريض من الموافقة المستنيرة (المتبصرة). فإن كان التوجيه بإنقاص الوزن صادراً من طبيب ذي وزنٍ زائد، أو كان التوجيه بالإقلاع عن التدخين صادراً من طبيب يدخن، أو كان التوجيه بممارسة الرياضة صادراً من طبيب لا يمارسها، ففي هذه التوجيهات على الأغلب التزام من أولئك الأطباء بما تُمليه عليهم أخلاقيات المهنة. بل إن خالفوا ذلك فقد وقعوا فعلاً في ما قد يُسمى بالنفاق مهنياً. هل يظن أيّ منا مثلاً أنه من المقبول أن ينصح طبيبٌ مريضاً مصاباً بمرضٍ في القلب أو الرئتين بأن يستمر في التدخين في ظل علمه بضرر ذلك؟ بالطبع لا، ولا يتغير في حكمنا على الأمر شيءٌ إن كان الطبيب مدخناً. ـ
ولكن ماذا عن عدم اتباع الطبيب في حياته الخاصة لما ينصح به مرضاه؟ من المؤكد أن الطبيب، والممارس الصحي، بشرٌ له ظروفه وخبراته ودوافعه ورغباته وآماله وتاريخه ومكوناته البيولوجية الخاصة به. بل علينا أن ندرك أن الممارس الصحي يُخطئ ويصيب في قراراته وسلوكه في حياته الشخصية، وكلما عصمناه من الخطأ في خيالنا كلما ازداد استنكارنا لما نظنه سلوك خاطئ منه أو، إن توافق ذلك السلوكُ مع ميولنا، قبلنا به لكي نخفّف وطأة تأنيب ضميرنا. ولأن الطبيب بشرٌ مثلما هو المريض، فما ينطبق على المريض ينطبق على الطبيب. ليس فقط في ضرورة اتباع توجيهات الممارس الصحي، بل كذلك في كون المرض أو السلوك أو العادات التي يتم التوجيه بخصوصها أموراً لها ما يفسرها ويفسر استمرارها وصعوبة تغييرها. ليس للطبيب أن يحكم على سلوك المريض ويختزله بأنه يعود لضعف إرادة المريض، وليس للمريض أن يحكم على سلوك الطبيب بذلك الحكم أيضاً فيما هو في نطاق حياة الطبيب الخاصة. ـ
كما أن المسألة ليست متعلقة فقط بما هو منطقيّ أو ما هو مطلوبٌ مهنياً عندما تمسّ أنماط السلوك البشري الذي نميل لإصدار الأحكام عليه واختزال ما يحدده بالإرادة الفردية. مما لا شك فيه هو أن مصداقية الممارس الصحي، وبخاصة الطبيب، والميثاق الرابط بينه وبين المريض يضعانه في موقع من السلطة العلمية ومنصبٍ قياديّ في مجتمعه سينطبق عليه فيه، شاء أم أبى، ما يجري على كل من علينا الوثوق بتوجيهاتهم كما فعلنا في طفولتنا مع أبائنا وأمهاتنا. الممارس الصحي قدوة في سلوكه قبل قوله، وإن لم يكن مثالاً يُحتذى فقد يكون مثالاً لما لا يجب أن يُقتدى به. وعند تناقض فعل الممارس مع ما يقدمه من توجيهات فعليه أن يتوقع أن الرسالة التي تصل للمريض إما أن تكون أن يقتدي بسلوكه أو أن لا يقبل بتوجيهاته. لكن ليس في أي من ذلك تبرير مقبول للمريض عندما لا يلجأ لإِعْمال عقله للتفريق بين ما يطلبه من الممارس الصحي من توجيهات وبين ما يشهده من الممارس في حياته الخاصة. فكما يواجه الممارس الصحي تحديات فردية خاصة به لأن يستفيد من علمه ومهنته في حياته الخاصة، فإن أمام المريض تحديات مشابهة قد يسهل الهروب من مواجهتها بالتحجج بسلوك الممارس المناقض لتوجيهاته، ويكون ذلك تبريراً مرفوضاً حتى وإن تَفَهّمنا أسباب لجوء المريض له. ـ

Back to Top