ليس وقوعنا في هذا الخطأ غريباً، فما زال يحدث في مجالنا منذ الثمانينات من القرن العشرين إن لم يسبق ذلك بعقود… الخطأ هنا يتعلق بأنظمة تشخيص الاضطرابات النفسية. مع وجود استثناءات معدودة، هذه الأنظمة وضعت ما نسميه بـ"التشخيص" بناءً على وصف خارجي لأعراض يشكو منها المريض...ـ
إلا أن التشخيص في الثقافة الطبية بشكل عام، بسبب التقدم السريع في العلم، بدأ ينحى في القرن العشرين للإشارة إلى مسببات المرض بشكل مباشر أو غير مباشر وهناك انحسار متسارع في وجود التشخيصات التي تكتفي بوصف متلازمات الأعراض. لذا فالحديث عن تشخيص يدل في أذهاننا على الأسباب تلقائياً، بينما هو في مجالنا يدل على الأعراض فقط ولا دلالة له على الأسباب إلا فيما ندر. لماذا إذاً نتحدث عما يحدث للمريض وكأنما ننسب للتشخيص قدرته على تفسير أسباب المعاناة؟ عندما نقول أن سبب قلق المريض إصابته باضطراب القلق المعمم أو اضطراب الهلع، فنحن نقع في خطأ التصنيف...ـ
أي أن الخطة العلاجية تكون معتمدة على ما وُجِد إحصائياً في الأبحاث الطبية على مجموعة كبيرة من المرضى الذين انطبقت عليهم معايير التشخيص الوصفية (ولم يشتركوا في مسبباته) أن احتمالية النفع منه أكثر. إلا أن التدخل العلاجي هنا لا يكون مخصصاً للحالة المتفردة للشخص الطالب للعلاج، وإنما مناسباً لأغلب من ظهرت عليه أعراض المتلازمة. كيف لنا إذن أن نخصص التدخل العلاجي ليناسب الحالة المتفردة التي تراجعنا في العيادة؟ أزعم أننا لا يمكننا ذلك إن وقعنا في خطأ التصنيف. بل لنتمكن من ذلك، لابد لنا أن تتغير أساليب تفكيرنا التي تصف وتنسب السببية وتحمل الدلالات…ـ
وهي مهارة تعتمد على فهم عميق لذات المريض وتاريخه، وتبدأ الصياغة في التقييم ولكن عليها أن تُراجع وأن تواكب العمق المتزايد لفهمنا للمريض مع مرور الزمن وتراكم الجلسات العلاجية. الضعف الشديد في فهم تكوين الذات عموما لدى الممارسين في المجال، وبخاصة من المنظور التحليلي/الديناميكي هو أحد الأسباب في ضعف هذه المهارة وركاكة كثير من الصياغات أو بُعدها عن صلب حقيقة المريض. نسعى، ونتمنى أن تتظافر الجهود، للتركيز على هذه المهارة في برامجنا التدريبية مما يعود على المهنة والمرضى بالمنفعة وذلك بالسموّ بجودة التدخلات العلاجية المقدمة.ـ
وقد يدفعنا التركيز على الصياغة لأن نتحدث عن معاناة من يعاني بطريقة تسمح لنا بالتعبير عن مواجدتنا العاطفية معهم. فكيف لمن يعاني أن يشعر بفهمنا له إن نسبنا اكتئابه للاكتئاب؟ لعل قدرتنا على التعبير له عن فهم شامل يربط بين المسببات والأعراض ومن ثم نتائج الأعراض على حياته تكون ما يهيء تكوين علاقة علاجية ناجحة مبنية على الفهم والمواجدة ومؤدية لتغيير جذري في حياة المريض. فليست المشكلة الحقيقية الداعية لوجود المريض في عيادتنا في أغلب الحالات وجود متلازمة من الأعراض وحسب، بل معاناة متجذرة في حياة المريض تنبع من تكوين شخصيته وأنماط علاقاته.ـ
والله من وراء القصد