٠ أشرت في التغريدة الأصلية لعدم إجابتي عادة على من يسألني عن أسبابي الخاصة لاختيار التخصص. السبب هو علمي بالدور الرئيس لطبيعة شخصيتي في ذلك الأمر، مما يجعل في حديثي عن الأسباب تسليطاً للضوء على ما يخصني. ولأني أمارس التحليل والعلاج التحليلي فإنه من المهم أن أحافظ على غموض وضبابية خصوصياتي بقدر الإمكان. لماذا؟ لأن من يخضع لهذا العلاج (وأي نوع آخر من العلاج النفسي) تتكون لديه "تَخْيِيلات" تملأ فجوات معرفته عن المعالج، وتضع سياقات لما يعرفه من خصوصيات المعالج. تأتي محتويات هذه التخييلات من عقل المريض، لتكتمل الصورة الذهنية عن المعالج لديه. عملية سد الفجوات وخلق السياقات هذه من أهم ما يقوم به العقل البشري في العلاقات، حيث أننا لا نبدأ أي علاقة "جديدة" مع آخر من الصفر، بل نجد طريقة لإسقاطها في قوالب العلاقات الرئيسية التي اختبرناها في نشأتنا. تتلون نظارة العلاقات عندنا بألوان وُضعت في ماضينا،ـ
هذه الظاهرة هي جزء مما نسميه في التحليل النفسي بـ "الإنقال" (وقد تُرجمت بـ "التحويل" أو "الطرح" ولا أُفضل تلك الترجمات). الإنقال أسلوب عمومي لتكوين العلاقات الإنسانية نحافظ من خلاله على الخبرات السابقة مع الأشخاص المهمين وتطوراتها داخل الذات، إلى جانب أنماط التفكير والشعور القديمة المرتبطة بتلك العلاقات، ومن ثَمّ نُحوّرها ونحييها بشكل تفاعلي في العلاقات الحالية. كلما كان واضحاً للمعالج ما يعلمه المريض عنه وما لا يعلمه كان أكثر سهولة عليه أن ينتبه للإنقال. وكلما ازدادت خصوصيات المعالج غموضاً، كان ذلك أدعى لحدوث الإنقال،ـ
أي أن تصوراتنا عن الآخر التي نسقطها عليه تصاحبها مشاعر مرتبطة بتلك التصورات (عن الآخر وعن الذات) وتوقعات تلقائية لما ستسفر عنه العلاقة وأنماط للتكيف مع تلك التوقعات وللتعامل مع تلك المشاعر بما في ذلك آليات دفاع تلقائية. كل ذلك يحدث بشكل لامَوْعيّ وتفاعليّ مستمر لا يمكن إدراكه دون وجود من يستطيع مراقبة ما يحدث باحثاً عن تلك الأنماط. المعالج التحليلي يحاول اتخاذ ذلك الدور، إلا أنه يواجه في ذلك مصاعب كثيرة: أولها أنه إنسان مثل المريض يتأثر في علاقاته بماضيه كما يتأثر المريض، ويتأثر بما يأتي به المريض من إسقاطات وسلوكيات وتفاعلات في العيادة
يترتب على حدوث الإنقال والإنقال المقابل أن يعمل المريض لاموعياً وخفيةً لدفع المحلل/المعالج للقيام بدور تحدده منظومة العلاقات المستدخلة لديه (عالم المواضع الداخلي)، وهو دور يميل المحلل/المعالج لتقمصه أو القيام به لامَوْعيّاً لكونه متناغماً مع جزء من شخصيته. يحدث ذلك عن طريق آلية دفاع تسمى بالتماهي الإسقاطي. أي أن الإعمال هو فعل أنشأه بشكل مشترك كل من المريض والمعالج لدى الأخير تعبيراً عن تخييل إنقالي لدى المريض يدفع المحلل/المعالج (من خلال الإنقال المقابل) للقيام به، ويحمل معاني ورموزاً لاموعية لدى كل من الطرفين.ـ
يحدث الإعمال أصلاً بشكل لاموعي من الطرفين. عندما يكون المحلل/المعالج واعياً بالضغط الذي يدفعه لسلوك معين، فهو في غالب الأحوال يحلل ما يحدث ويتفادى الإعمال. لكن إن وقع الإعمال فإن من مهام المحلل/المعالج أن يستبصر بذلك (من خلال تفحصه المتواصل للعملية العلاجية وتطور العلاقة) ليستطيع تحليله لاحقاً. يترتب على استبصاره بالإنقال المقابل والإعمال تعمقاً كبيراً في فهم الدور التفاعلي للمحلل/المعالج ومن خلال ذلك الفهم، معرفة أعمق بما يدور في اللاموعي لدى المريض، حيث أنه نشأ إبتداءً لديه وتفاعلاً معه. وبالتالي يمكن للمريض أن يصل لاستبصار وجداني عميق لما يحدث في علاقاته في حياته بعد أن تظهر له معالم إنقاله النمطي وكيف أدى ذلك للإعمال في علاقته مع المعالج. لكن كل ذلك بحاجة لعلاقة يُسمح لها أن تتطور عبر فترة زمنية كافية ولعمق كافٍ. وإن لم يكن لها ذلك فإن هذه الظواهر، والتي تحدث لا محالة، قد يتعذر فحصها وإدراكها والاستبصار بها، ولكنها تظل مؤثرة على العلاقة العلاجية، ومحورية في علاقات المريض كلها، والتي يغلب أن يكون لها دور محوري في أعراض المريض ودوافعه للحصول على العلاج.ـ

والله من وراء القصد
---
---
Back to Top