تاريخ العلم مليء بأمثلة عن "نظريات" وُضعت لتفسير "ظواهر مُثبتة" ويظهر لاحقاً عدم قدرة تلك النظريات على تفسير تلك الظواهر. فمنها نظرية الأثير الناقل للضوء، ونظرية الفْلوݠيستون لتفسير الاحتراق، ومنها نظرية الكون الساكن التي وضعها أينشتاين، ونظرية فراسة الدماغ (الفرينولوجي) والتي وُضعت لتفسير سمات الشخصية. كما أن تاريخ العلم مليء بالفرضيات التي لم تنجح في تفسير الظواهر نجاحاً كاملاً أو التي عُدّلت لاحقاً لتكون أكثر قدرة على تفسير تلك الظواهر. وينطبق ذلك على مئات من الفرضيات في الطب وعلم النفس. فقد تغيرت كثير من مفاهيمنا عن الميكروبات والهرمونات ووظائف الجهاز العصبي ودور الكوليسترول في أمراض القلب وغير ذلك الكثير. وكثير من النظريات الحديثة بصدد التغيير أو البطلان بسبب الاكتشافات الحديثة، فمن النظريات المؤثرة التي باتت آيلة للسقوط نظرية دور لويحات الآميلويد في التسبب في مرض الآلزهايمر على سبيل المثال.ـ
في الحقيقة هذا ديدن العلم وميزته الحقيقية! فلو كان العلم مختصاً بطرح تفسيراته للظواهر المحسوسة على أنها حقائق غير قابلة للنقاش لما روجعت أي من تلك النظريات ولما تقدم العلم عما كان عليه لدى الإغريق القدامى. المبدأ السائد في العلم الحديث هو أن الفرضيات المطروحة يجب أن تكون قابلة للنقض عن طريق البحث التجريبي وملاحظة الظواهر المتعلقة بها. أي أن العلم الحديث ينبني على قاعدة النقد الذاتي المتواصل. ولكن من الضروري الفصل بين أمرين: الظواهر المحسوسة أو القابلة للقياس، والفرضيات أو النظريات التي تزعم القدرة على تفسير تلك الظواهر.ـ
هذا المبدأ الإمپريقي الذي يدعونا دائماً لقبول الشك في النظريات مع احترام الظواهر المحسوسة المُقاسة، هو الذي أبقى نظرية السيروتونين لتفسير الاكتئاب ضعيفة طوال تاريخها رغم ظاهرة النجاح العلاجي لأدوية مؤثرة على مادة السيروتونين. وقد حادت كثير من النقاشات حول هذا الموضوع عن المنهج العلمي الصحيح بعد نشر دراسة مراجعة منهجية شاملة وجدت أن النظرية غير قادرة على تفسير الظواهر البيولوجية التي يُحدِثها اضطراب الاكتئاب في الدماغ. حيث مال كثيرون لاستنتاجات تنفي "الظواهر" بدلاً من طرح فرضيات بديلة، كأن يقوموا بنفي وجود آليات بيولوجية في الاكتئاب أو نفي كامل لفاعلية الأدوية في التخفيف من أعراضه. من الممكن أن نناقش البراهين العلمية التي أكدت وجود الظواهر، وقد يكون فيها من الضعف ما يؤيد وجود شك في مصداقية تلك البراهين، ويكون هذا النقاش متماشياً مع مبادئ العلم الحديث. لكن الشك في الظواهر بسبب الشك في نظريات تفسرها لا يمت للعلم بصلة. لقياس الظواهر مناهجه العلمية والتي ندرسها ونطبقها في الدراسات الرصينة الخاضعة لمجهر المبادئ الإمپيريقية التى يستند عليها العلم الحديث. وتأتي النظريات الساعية لتفسير الظواهر كمحاولات فيها درجة من التجريد عن الظواهر، وثباتها يعتمد على استمرارية القدرة على التفسير رغم تراكم الظواهر المختلفة عبر الزمن. لذلك تبقى الظواهر (ما لم تنتفي البراهين على وجودها) وتتغير النظريات (ما لم تُكتشف ظواهر غير متماشية معها) طوال التاريخ. العلم حيّ ينمو ويتفاعل ويتغير، وفيه آليات كثيرة للمراجعة والشك والتعديل ومجابهة التحيزات التي لا مفك منها.ـ
والله من وراء القصد