مدى الإثارة والحماس الذي شعر به الأطباء النفسيين في السعودية وإن كان ممزوجاً بقليل من الريبة والحرص. تم استقباله وكأنه بداية عصر جديد في الطب النفسي. تعلقت به آمال كثير منا لأن يبدأ ملء الفجوة التي شعرنا بأنها تفرق بين آلية التشخيص في الطب النفسي من جهة وباقي مجالات الطب من جهة أخرى. واستمر الحماس في التعاظم حتى نهاية التسعينات، حيث بلغ جذوته ثم تراجع بشكل سريع، بينما استمرت الريبة والتمحيص الموضوعي والحرص العلمي في التزايد.ـ
بدأ كثير من الأطباء النفسيين في الغرب ينقدون منهج الدليل نقداً عميقاً ومؤثراً. كنت في ذلك الوقت في الخارج ورأيت ظاهرة عجيبة، وهي تمسك كثير من الأخصائيين النفسيين والأطباء بالدليل وكأنه وحي منزل من السماء، لا لشيء سوى أنهم في أواخر التسعينات وبداية الألفية الثانية كانوا قد فقدوا في ممارستهم الإكلينيكية أي ارتباط بالمناهج التشخيصية السابقة والمبنية على أساسات نظرية عميقة. لم يتبقى لهم سوى هذا الدليل، والذي افتقد الارتباط النظري وعمق الفهم للطبيعة البشرية مفضلاً التركيز على الوصف الخارجي للسلوك والأعراض.ـ
ومن العوامل الهامة، وبخاصة في الولايات المتحدة، لجوء شركات التأمين الصحي للاعتماد التام على قائمة المعايير التشخيصية لقبول تشخيص ما وبالتالي قبول تغطية تدخل علاجي ما. ومن العوامل الهامة ميول أنظمة الصحة في الدول لاعتبار التشخيص السريع المعتمد على قائمة معايير ظاهرة بأنها تُمَكّن تلك النظم من رفع كفاءتها وتقليص المدة الزمنية اللازمة للتشخيص مما يقلل الإنفاق على أجور الممارسين ويقلص قوائم الانتظار الطويلة.ـ
نتيجة لهذه التغييرات، تناقصت جودة العناية المقدمة على الرغم من تزايد الأبحاث العلمية والتجارب السريرية وتوفر الأدوية مما أدى لتزايد عودة المرضى للحصول على العلاج مرات أخرى، وساهم ذلك بدوره بارتفاع الضغط على النظام الصحي وتزايد الطلب على الأطباء والأخصائيين النفسيين، لكن لم يكن ممكناً مجاراة ارتفاع الطلب برفع الطاقة الاستيعابية للنظم الصحية، واستمر ضغط "البحث عن الكفاءة وترشيد الإنفاق" مما أدى إلى ازدياد الاعتماد على الأطباء في العلاج الدوائي وتقليل فرصهم في تكوين علاقات علاجية والقيام بالعلاج النفسي، حيث أن ارتفاع أجورهم وكلفة تدريبهم دفع الأنظمة للاعتماد على غيرهم لتقديم تلك الخدمة، لكن ذلك أدى لفقدان المهارات ليست العلاجية وحسب، بل والتشخيصية لديهم، وتدهور جودة تدخلاتهم العلاجية. بينما لم ترتفع جودة العلاج النفسي المقدم من غير الأطباء ولم يمكن تغطية الحاجة بهم.ـ
واستمر الضغط على كل مقدمي العلاج النفسي والباحثين في المجال للتركيز على العلاج القصير الأمد المتمركز حول الأعراض الظاهرة وليس الشخص بكامله. كما تدهورت جودة البحوث العلمية التي تسعى لسبر أغوار الاضطرابات النفسية، حيث أن معايير الدليل التشخيصية كانت تحدد مجال البحث وعيناته، وكانت الزيادة في الضغط على الأنظمة الصحية مؤثرة في طريقة تمويل تلك البحوث وتوجيه ذلك التمويل. وتواصل التدهور في المجال إلى الحد الذي دفع بالأنظمة الصحية والتي أصبحت عاجزة عن مجاراة التضخم المتواصل في الطلب على الخدمات إلى تقصير مدد التنويم في الأقسام النفسية في المستشفيات واللجوء للاعتماد على أطباء الأسرة في تقديم التدخلات الطبية بعد الحصول على الاستشارة من المتخصصين في الطب النفسي، متجاهلين وجود فئة عريضة من المرضى بحاجة لعناية تخصصية مزمنة ومتعجلين في الاعتماد على غير المتخصص قبل استيفاء التدريب الكافي له، سعياً لرفع الكفاءة والتقليص من الكلفة.ـ
إلا أن النتائج لكل ذلك كانت عكس ما هدفت إليه تلك التغييرات تماماً. معدل تضخم الطلب على الخدمات استمر في الارتفاع بل تسارع فيه، وجودة الخدمات المقدمة استمرت في الانخفاض، واستمرت الفجوة بين العرض والطلب في الاتساع، ولم تتقدم العلوم والبحوث الصحية المتعلقة بالمجال خلال ربع القرن الماضي بالدرجة المتوقعة لها بل إن الفجوة بين الطب النفسي ومجالات الطب الأخرى قد اتسعت.ـ
لا أدعي هنا بأن الدليل التشخيصي هو السبب الوحيد في كل ذلك، فهنالك عوامل أخرى كثيرة مؤثرة ومتداخلة مع ما حدث بعد طرح الدليل، بعضها سابق له، مثل حركة القضاء على مأسسة المرضى النفسيين والتي بدأت في الخمسينات من القرن العشرين، ومنها الصراعات الأيديولوجية في المجال بين المدارس العلاجية المختلفة، ومنها حركة الطب النفسي البيولوجي التي بدأت في الثمانينات. كما أن النسخة الثالثة من الدليل (1980م) كان لها دور هام جداً في تمهيد الطريق للنسخة الرابعة منه، وينسب كثيرون من مؤرخي هذه الحقبة للثالثة أعظم الأثر. فعلى الرغم من عدم خلوها التام من الارتباطات النظرية، إلا أن تلك الارتباطات ضعفت كثيراً وسعت النسخة الثالثة للمواءمة مع التصنيف الدولي للأمراض
واقترحت التشخيص المتعدد المحاور وهي الصورة التي اعتمدت عليها النسخة الرابعة للتشخيص. وكان من الدوافع الرئيسية للنسخة الثالثة إيجاد مصداقية واعتمادية وموثوقية أعلى للتشخيص النفسي والذي كان قد تعرض لنقد حاد في ذلك الوقت.ـ
ومن العوامل المؤثرة اكتمال تحول مفهوم الاضطراب النفسي في الإطار القانوني من معاناة ذاتية إلى كيان مرضي يمكن الادعاء بأن تشخيصه دقيق وموثوق وله تبعات تنفصل عن ذات المريض. وارتبط بمعايير الدليل دعم المرضى والأسر من ذويهم مالياً وتوجيه مناهج الدراسة وتكييف النظام التعليمي والاجتماعي.ـ
أدى ذلك إلى نوع من تجسيد الاضطرابات النفسية، على الرغم من أن تسميتها بالاضطرابات كان محاولة لتفادي تجسيدها. فأصبح للتشخيص تداخل في تكوين هوية حامله، وتشكلت الجمعيات التي تدافع عن حقوق ذوي اضطرابها وبدأت في الظهور تخصصات فرعية في الطب النفسي وعلم النفس تخص اضطرابات معينة.ـ
كما ساهمت في ما أشرت إليه من التحولات في القطاع النفسي عوامل اقتصادية وديموغرافية وسياسية كثيرة يصعب حصرها هنا. لكنه من غير الممكن تجاهل الدور الحاسم للنسخة الرابعة من الدليل والتي ربما ناسبها التشبيه بالقطعة الأولى (أو إحدى القطع الأولى) من سلسلة طويلة من قطع الدومينو تهاوت تباعاً ولا تزال تتهاوى إلى يومنا هذا. لم تكن لكل تلك العواقب سلبيات محضة، بل كان لكثير منها إيجابيات كذلك. ولم تستطيع النسخة الخامسة من الدليل (2013) إلى الآن أن تُغيّر مسار الأحداث والعواقب كثيراً. بل أضافت عواقب سلبية جديدة، ولم ألحظ إضافة إيجابية مهمة ومؤثرة لها حتى الآن.ـ
فلعل ما يحدث عندما نحول الخبرات التي تتشابه في ظاهرها، والسلوكيات التي لا نسعى لكشف دوافعها، والأعراض التي يشترك فيها أشخاص يختلفون في المسارات التي اتبعتها ذواتهم لإنتاج أعراضهم، عندما نحول كل ذلك إلى معايير منفصلة عن الذوات التي أنتجتها ونثق بأنها أشياء، كيانات، حقائق متجسدة لا اختلاف بينها كتوصيفات من حيث المبدأ وبين توصيفات لالتهاب في الجلد، فإننا نوجد مؤثرات جديدة، مخلوقات مستبدعة، نتفاعل معها بشكل متواصل على المستويات الفردي منها والجمعي والنظمي والسياسي والاقتصادي إضافة للمستويات العلمية والبحثية والنظرية والفكرية التجريدية.ـ
ليس القيام بهذا الجهد مشروعاً علمياً أو طبياً وحسب، بل بمجرد وضع توصيفات وتصنيفات مجردة عن الخبرة الذاتية فهو إجراء (عن غير قصد) لتعديل جوانب من الخبرة البشرية الذاتية والحالة الإنسانية وإعادة تشكيل جوانب منها وابتداع جوانب جديدة لها. لذلك الجهد تبعات من المحال التنبؤ بها مهما صدقت وأخلصت نوايا القائمين به.ـ
فما الحل إذن؟ هل نتوقف عن محاولة تصنيف المعاناة الذاتية؟ هل نغيّر الأساس الفكري لتصنيف الاضطرابات النفسية؟ هل نعيد الارتباط بالمنظور العميق والنظريات التي تفسر معاني خبراتنا؟ هل نتخلى عن كل ذلك ونكتفي بما نجد له من علامات حيوية وتفسيرات فسيولوجية منفصلة عن فهمنا لخبرات الذات؟ هل نلقي بأدلة التصنيف الحالية عرض الحائط ونبدأ من جديد أم نتوقف حيث وصلنا ونمتنع عن أي تعديل مستقبليّ؟
لكل خيار من هذه وغيرها نفس المآل: سيكون له تبعات لا يمكن لنا حصرها أو توجيهها عوضاً عن التنبؤ بها. لكني أظن أنه من الضروري على كل ممارس في القطاع النفسي أن يعي مدى أثر هذه الأدلة التشخيصية المتراكم والمتزايد على كل ما يتعلق بالمجال، وأن يتمسك بموقف العالِم المنصف مما ينتجُه من العلم: القبول المؤقت الممزوج بالشك ودافع التمحيص المتواصل والبحث عن البراهين المضادة. عندما نفقد التعلق المؤدلج بتلك الأدلة التشخيصية دون أن نفقد القدرة من الإفادة منها فلعلنا نعلن، لأنفسنا قبل مرضانا، أنها ليست وحياً منزلاً وأنها مجرد "أدلة" من صنع بشر.ـ