يحدث لغط كبير حول ما يسمى ب"نظرية عدم التوازن الكيميائي" في الدماغ لتفسير الاكتئاب. يوجد من لا يقبل إلا بهذه "النظرية" ويدعو فقط للعلاج الدوائي، ويوجد من يرفضها لعدم مصداقيتها وبالتالي يرفض كل تدخل علاجي دوائي. ـ
كلا الموقفين خاطئ علمياً! ـ
أحاول في هذه السلسلة من التغريدات شرح ذلك
---
ما يتم تداوله في الإعلام أحياناً وفِي بعض الدعايات الدوائية وفي ما يقوله بعض الأطباء وفِي بعض أدبيات علم النفس حول ما يُدعى "عدم التوازن الكيميائي" في الدماغ في اضطراب الاكتئاب بحاجة إلى توضيح تاريخي وعلمي لأن العبارة تستخدم لتعطي دلالات غير دقيقة إطلاقاً من المنظور العلمي
تحرياً للدقة: مفهوم "عدم التوازن الكيميائي" (بهذا اللفظ) ليست نظرية علمية ولَم تكن في أي يوم من الأيام. ولكنها تشير إلى فرضيات متعلقة بآلية نشوء الاكتئاب إضافة إلى محاولة لتبسيط مبالغ فيه لحالة بيولوجية شديدة التعقيد معلوم تواجدها في الدماغ لدى المصابين بالاكتئاب.ـ
الفرضيات التي تشير إليها تلك العبارة متعلقة بدور الموصلات العصبية الكيميائية (خاصة سيروتونين ونورإيپينيفرين)، حيث أن وظائف وتركيبة بعض الدوائر العصبية التي تعتمد على هذه الموصلات تتغير في الاكتئاب، وليس في ذلك مجال للشك لأنها ثبتت في مئات من الأبحاث. على سبيل المثال: "فرضية السيروتونين" للاكتئاب. أكرر: لا يوجد أي شك بأن الوظائف المتعلقة بهذه الموصلات تتغير في الاكتئاب.ـ
إلا أن ذلك لا يُعَدُّ أمراً مفاجئاً لأي عالمٍ بوظائف هذه الدوائر العصبية لارتباطها الوثيق لدى الأصحاء بالحالة المزاجية الوجدانية وتداخل وظائفها في كل ما يتعلق بالنشاط والرغبة والتركيز ... إلى آخر الوظائف المتأثرة بأعراض الاكتئاب. المسألة التي تفوت على الكثيرين هنا ليست مدى ارتباط هذه التغييرات بالاكتئاب...ـ
بل ما يفوت على الآخذين بوجود هذه الظاهرة أو ناقديها هو أنها "ترتبط" بوجود الاكتئاب فقط وليس لها ارتباط سببي. بمعنى أن تواجد الظاهرة لا يساوي كونها الآلية المتسببة في نشوء الاكتئاب. احتمالية كونها آلية سببية كانت غير مدروسة بشكل كافٍ عندما تم اكتشافها، لكن ذلك قد تغير الآن
هناك ما يكفي من البراهين العلمية التي تشير إلى أن الآليات البيولوجية المؤدية لنشوء الاكتئاب (ويطول جداً شرحها هنا لكونها في غاية التعقيد) تسبق ظهور هذه الظاهرة بكثير ولا تعدو هذه الظاهرة سوى إحدى الخطوات الأخيرة من مشوار بيولوجي طويل نتيجته ظهور أعراض الاكتئاب
تخيل معي سلسلة طويلة من أحجار الدومينو تتساقط الواحدة تلو الأخرى نتيجة سقوط أحدها. بإمكان هذا التساقط المتسلسل أن يحدث أينما كانت بدايته في السلسلة، لكن النهاية دائماً واحدة، وهي سقوط آخر أحجار الدومينو في السلسلة...ـ
تخيل معي أن كل حجر من أحجار الدومينو هو عملية بيولوجية تحدث في خلايا الدماغ في إحدى المناطق المرتبطة بنشوء الاكتئاب، وأن الحجر قبل الأخير أو أحد الأحجار القريبة من النهاية في السلسلة هو وصول الموصل العصبي سيروتونين إلى مستقبلاته في خلية عصبية وإنتاج نشاط خلوي فيها...ـ
يشبه هذا المثل ما بحدث في الاكتئاب، مع كونه تمثيل فيه تبسيط بالغ ويُعبّر عن شكل واحد من أشكال متعددة من التعقيد في العمليات الحيوية المؤدية لظهور الاكتئاب. إلا أن الهدف من هذا التشبيه إيضاح نقاط مهمة:ـ
توجد آليات حيوية متعددة ومداخل كثيرة تؤدي لحدوث الاكتئاب، وتلك العمليات الحيوية قد يتم تفعيلها نتيجة لعوامل متعلقة بخبرات الفرد في البيئة الاجتماعية، و/أو تراكمها في البيئة النفسية الذاتية و/أو عوامل حيوية بحتة غير مرتبطة بالبيئة، و/أو كل ما سبق وغيرها من العوامل
فوجود آليات بيولوجية لنشوء أعراض واضطرابات نفسية لا يتعارض إطلاقاً مع كون تلك الأعراض والاضطرابات متعلقة بعوامل نفسية أو اجتماعية كما يظن البعض، إنما تؤدي تلك العوامل دورها من خلال الآليات البيولوجية في الدماغ
وكون الأعراض مرتبطة بعوامل بيولوجية لا يعني على الإطلاق عدم وجود دور للعوامل النفسية والاجتماعية. وعوداً لما ابتدأنا به، فإن التغيير في وظائف الموصلات العصبية يحدث في نهاية الأمر أياً كانت العوامل التي أدت إلى بداية سقوط أحجار الدومينو
إلا أنه حتى هذا الفهم قاصر عن توضيح الصورة. فالحقيقة هي أن المحصلة النهائية من الناحية البيولوجية هو تغيير في اللدونة العصبية في مناطق محددة من الدماغ. ومعلوم أن ذلك ناتج عن تغيير جذري في معدل إنتاج عدد من المركبات الكيميائية داخل الخلايا التي تأثرت بالتغيير في وظائف الموصلات العصبية
ومعلوم كذلك أن كثيراً من العوامل البيئية، النفسية منها والبيولوجية والاجتماعية، يمكن أن تحدث أثراً مباشراً على تلك اللدونة العصبية. أي أن أثرها يختصر الطريق ويتجه لآخر حجر في سلسلة أحجار الدومينو مباشرة.
وحيث يمكن للعوامل النفسية أن تؤدي لإحداث تغييرٍ سلبي في اللدونة العصبية، فبإمكانها إحداث تغييرٍ إيجابي فيها. لذلك توجد لدينا فرضيات متكاملة عن الآليات البيولوجية التي تؤدي إلى إحداث الأثر العلاجي من خلال العلاج النفسي بالكلام (الجلسات العلاجية) أو من خلال تغيير البيئة الاجتماعية أو البيولوجية
أما موضوع "عدم التوازن الكيميائي" فقد تم مع الأسف إساءة استخدام هذا التعبير لتبسيط المفاهيم المعقدة، وأدى انتشار استخدامه إلى أن أصبحت تستخدمه شركات الأدوية في دعاياتها وبخاصة منذ التسعينات من القرن العشرين واستخدمه كثير من الأطباء في محاولاتهم لإقناع المرضى باستخدام الأدوية، وانتشر إلى الدرجة التي أصبح التعبير شبه حقيقة في تفكير الكثيرين...ـ
في الحقيقة، كما أنني استخدمت مثالاً لتبسيط عمليات معقدة (سلسلة أحجار الدومينو)، فقد استخدم هذا التعبير أساساً كأداة لتبسيط ما وجده العلم آنذاك من دلائل على استجابة الاكتئاب لأدوية لها أثر على موصلات عصبية معينة في الدماغ، ومن براهين تلت ذلك على وجود تغييرات في وظائف تلك الموصلات.ـ
إلا أن استخدام ذلك المثل، وبخاصة عن طريق شركات الأدوية، تغلغل في الرأي العام وبدأ يتسلل إلى أدبيات الأطباء. فاعلية الأدوية ليست المشكلة ولكن المشكلة هي الإيحاء الناتج عن استخدام هذه العبارة لمن لم يفهم تعقيد العمليات البيولوجية المتعلقة وتداخل العوامل البيئية معها، سواءً في نشوئها أو في العلاج منها.ـ
حيث أن المرضى يتوصلون لفهم مغلوط بأن العلاج بالضرورة يجب أن يكون دوائياً، وربما وقع في ذلك جيل كامل من الأطباء (وبخاصة أطباء الأسرة والأطباء العامين ولكن لم يسلم الأطباء النفسيين من ذلك). لن تجد من العلماء الباحثين في آليات المرض والعلاج واحداً يستخدم هذه العبارة!
ليس في الدماغ "توازناً" لكيميائيات، حسب ما تدل الكلمة من معنى. لكن ما نعرفه يؤكد عدة أمور:ـ
- هنالك عدة طرق لنشوء الاكتئاب، وفِي الغالب تتداخل الطرق لدى الفرد
- هنالك عدة طرق لعلاج الاكتئاب، وفِي الغالب يستفيد الفرد من إحداها أو بعضها أو كلها مجتمعة
- طرق نشوء الاضطراب بيولوجية و/أو نفسية و/أو اجتماعية، وكذلك بالضبط طرق علاجها
- لا يوجد معنى حقيقي لعبارة عدم التوازن الكيميائي، ولكن ذلك لا ينفي إطلاقاً محورية العمليات البيولوجية (بما في ذلك التغييرات في وظائف كيميائية) في نشوء الاكتئاب وفِي العلاج منه.ـ
- العلاج النفسي يعمل من خلال عمليات بيولوجية في الدماغ بإمكانها إعادة الوظائف الحيوية إلى وضعية أكثر صحية، والنتيجة هذه هي نفس النتيجة النهائية لأي تدخل علاجي فعال، بما في ذلك العلاج الدوائي
- لذلك من يظن بوجود تضارب أو تناقض جوهري وفلسفي بين المنظور البيولوجي والمنظور النفسي للاضطرابات النفسية لم يُلِمّ إلا بجزء صغير من العلم المتاح، وفِي ذلك انحياز يسهل الوقوع فيه لا يختلف كثيراً عن الانحياز الذي نشأ من استخدام عبارة "عدم التوازن الكيميائي".ـ