ذكرت في إحدى مساحات تويتر مسائل تتعلق بدور الأطباء في التعامل مع انتشار المعلومات المغلوطة وبخاصة فيما يخص كوڤيد١٩ والتطعيم… تمنيت منهم أداء دورهم التوعوي ولكن كذلك تمنيت منهم التأني الشديد وتوخي الحذر والدقة في انتقاء محتوى الرسالة التوعوية. ذكرت بعض العوامل المهمة
أولها أن العامة تجذبهم المعلومة السهلة المبسطة وينفرون من التعقيد، إلا أن أغلب ما يجب توعيتهم به أقرب للتعقيد. هذا العامل واضح للجميع لكنه ليس مؤثراً لوحده رغم كونه واضحاً وظاهراً، إلا أنه يصبح مؤثراً وبقوة عندما يرتبط السهل البسيط بما يثير مشاعر قوية أو يوازي معتقدات راسخة
وأضيف هنا أن الكم الهائل من المعلومات التي يتم تناقلها عبر وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من وسائل الإعلام قد يختبره المتلقي كسيل عارم يهدد بأن يغمره، لذا فإنه من الطبيعي أن يميل المتلقي لفلترة هذه المعلومات، وكلما كانت أكثر تعقيداً كلما ازدادت احتمالات حجبها للتخفيف من أثر الفيضان المعلوماتي
ثانيها أن العامة يميلون للبحث عن اليقينية. بينما يتسم بالضرورة ماينتجه العلم من معلومات باللايقينية. المنهج العلمي يعتمد على استمرارية الشك في المخرجات مع الثقة بكون المنهج العلمي بحد ذاته هو ما يُعتمد عليه. عندما يتحدث الأطباء والعلماء عن مخرجات علمية بيقينية فهم يقعون في فخ اجتذاب العامة لما يقولون، ويكثر أن ينجحوا في اجتذابهم لكنهم في ذات الوقت يغذون توجه القبول بالرسائل اليقينية ويعرضون أنفسهم للتناقض مع المستجدات والتعقيدات وبالتالي يضيفون للتشويش ودعم المعلومات المغلوطة التي تتكئ على تضارب تصريحات الأطباء. كما أن الأطباء والعلماء أنفسهم قد يميلون كغيرهم للانسياق وراء اليقينية مما يؤدي للتحزب بينهم. مهارة الحديث عن مخرجات العلم بتواضع وتأني وحذر يسمح للتعديل والتغيير مع المستجدات، وبلهجة تثق في المنهج العلمي والأمانة التي تتحملها الجهات الموثوقة… ليست هذه المهارة مما يتحلى به كثير ممن يدلون بآراءهم العلمية
نقارن بين احتمال الإصابة بكوفيد١٩ لدى من تحصن بالتطعيم مع من لم يحصل عليه. هنالك فرق إحصائيٌ ضخم بين الاحتمالين. لكن قد يصل لفهم كثير من العامة أن كلا الحالتين تحتمل الإصابة بالمرض دون أن تصل رسالة الفرق الإحصائي الضخم بينهما. الطريقة التي نتحدث بها عن هذه الأمور يجب أن تتسم بدقة متناهية، إلا أن الدقة هنا تزيد من تعقيد الرسالة مما يعيدنا للعامل الأول الذي ذكرته، وقد يتفادى مقدم الرسالة هذا الخلط بأن تتسم رسالته باليقينية، مما يعيدنا للعامل الثاني الذي ذكرته. لذلك فإن الحديث التوعوي العلمي محفوف بمخاطر كثيرة ويجب علينا التأني الشديد قبل الخوض فيه
وأضيف هنا عاملاً رابعاً لم أذكره في مداخلتي في نقاش مساحة تويتر، وهو أن وجود الغموض واللايقينية، ولا مفر منهما، في أحداث أو أمور لها تأثير كبير على الحياة (كما في الجائحة مثلاً) ويلامس جوانب كثيرة مما يهم الناس، إبتداءً بالصحة والاقتصاد وانتهاءً بالسياسة العالمية، يؤدي بالضرورة لانتشار نظريات وقصص تلملم شمل كل تلك الجوانب المتعددة والمختلفة وتملأ الفجوات المعرفية بينها بما يمكن أن يربطها ببعضها مهما كان ذلك الربط واهياً أو خيالياً. هنا مولد نظريات المؤامرة. الميل للارتياب في خلق تلك النظريات مريح للذات لكون نتيجته وجود من نلقي عليه ملامة ما يحدث حولنا وفي ذلك تنصل من المسؤولية الذاتية وإراحة للضمير. نعلم أن كثيراً هذه النظريات ابتدأت من تصريحات لبعض الأطباء والعلماء أو تغذت على تضارب واختلاف بين تصريحات بعضهم. لا فرار من ظهور هذه النظريات، لكني أتمنى أن لا نساهم في إنتاجها أو نشرها حتى ولو دون قصد
وقد سبق أن كتبت مقالاً عن التوعية ونشر العلم في التخصصات الصحية تطرقت فيه لمحاذير أخرى عامة، بينما ركزت هنا على المحاذير التي برزت خلال العامين المنصرمين بشكل خاص نتيجة لجائحة كوڤيد١٩
والله من وراء القصد