الانتباه
 (Attention) 
والتركيز
 (Concentration)
 وظائف ذهنية تختلط معانيها أو تترادف عند أكثر الناس وكثير من المختصين. أود هنا التفريق بين الأمرين.ـ
 اصطلاحاً: الانتباه يحدث تلقائياً بدون إرادة مَوْعِيّة مسبقة أو جهد ذهني، وهو دخول المؤثرات الحسية في نطاق الوعي. وبإمكان العقل حجب الانتباه عن أمور يحددها أو إعادة توجيهه بعيداً عنها، ويحدث ذلك لامَوعيّاً. عندما ندرك مؤثراً جديداً في بيئتنا فقد "انتبهنا" له. والانتباه وظيفة أساسية في الدماغ وغيابها يدل على فشل في عمل الدماغ. والانتباه مرتبط بوظيفة اليقظة
Alertness
واليقظة والانتباه معاً من أهم الدلائل على أن الدماغ يقوم بوظائفه الأساسية وغيابهما الكامل نجده في حالات غياب الوعي.ـ
لكن استمرار الانتباه (وليس غيابه) على مؤثر أو مجموعة من المؤثرات المتعلقة بعضها ببعض أو مصدر للمؤثرات مهارة تختلف قدرات الناس فيها. فمنهم من يمكنه الاستمرار في الانتباه فترة طويلة ومنهم من لا يمكنه ذلك أكثر من ثوانٍ معدودة وكل ما بين الطرفين ينطبق على بعض الناس. ولا يبدو أن بإمكان الفرد تطوير قدرته على إطالة مدة الانتباه. ولكن توجد عوامل تساهم في استمرار الانتباه. وهي عوامل تتعلق بإثارة وظائف وجدانية ووظائف إدارة الضغوط. إثارة مشاعر المتعة بخصوص مؤثر ما، على سبيل المثال، بإمكانها المساهمة في استمرار الانتباه على ذلك المؤثر، بينما ارتفاع مستوى الضغط ووجود مهددات بين المؤثرات البيئية يجعل استمرارية الانتباه على مؤثرات غير مهددة صعباً وبالتالي تقصر مدة الانتباه عليها.ـ
 وللعقل لدى كثير منا حيلة تساهم في "تبرير" عدم استمرار الانتباه: إنتاج شعور الملل. في واقع الأمر كل ما يظن بعض الناس أنه ممل، ستجد من لا يظنه مملاً، ولم يختلف هؤلاء سوى في مدة استمرار الانتباه.ـ
ويلجأ ذوي الانتباه قصير المدة إلى القيام بمهام متعددة في ذات الوقت أو الميل لنشاطات تتميز بتعدد المؤثرات البيئية المشتتة للانتباه. الانخراط في هذه النشاطات وتعدد المهام يوجِد وهماً بالكفاءة حيث أن طبيعة هذه النشاطات وتعددها يزيل أو يقلل من احتمال إدراك وجود مشكلة في الانتباه، حيث أن "توزيع" الانتباه يتطلب انتباهاً غير مستمر بالضرورة. ولكن الدراسات أوضحت بأن هذه النشاطات لا تتميز بتحسن في الكفاءة لدى ذوي الضعف في استمرارية الانتباه، بل تقل فيها الكفاءة، والنتيجة ذاتها نجدها فيمن لا يعاني من إشكال في الانتباه عند انخراطهم في مثل هذه النشاطات، ولكن درجة تدهور الكفاءة تكون أقل لديهم.ـ
 بينما التركيز وظيفة تتطلب إرادة مَوْعية مسبقة وجهداً ذهنياً مبذولاً وذلك لتحديد ما يدخل نطاق الوعي بشكل ضيق من خلال الانتباه وتوجيه الذهن لحجب الانتباه عما سوى المقصود بالتركيز. ولأن التركيز لا يحدث تلقائياً، فهو مرهق لصاحبه إن استمر طويلاً. وبإمكان التركيز منع أو تقليل الانتباه لمؤثرات كثيرة محيطة بمن يركّز. وعلى الرغم من كونه معتمداً على إدارة ذهنية لوظيفة الانتباه عن طريق وظائف الدماغ التنفيذية، إلا أن له أثر مختلف على باقي الوظائف الذهنية. فهو مهمٌّ كخطوة من الخطوات التي يتطلبها إرساء الذاكرة قصيرة الأمد في نطاق الذاكرة طويلة الأمد وبخاصة فيما يتعلق بأحداث أو أمور "معلوماتية" غير مثيرة للمشاعر بشكل قوي.ـ
وعندما ذكرت بعاليه أنه بإمكان العقل حجب الانتباه عن أمور يحددها أو إعادة توجيهه بعيداً عنها، ويحدث ذلك لامَوعيّاً، فهنا أشير لآليات دفاعية نفسية يستخدمها العقل (أو بدقة أعلى من المنظور التحليلي: الأنا) لإبقاء أمور معينة خارج نطاق الوعي يمكن تسميتها بالآليات الدفاعية الانتباهية. وقد شرحت ذلك بالتفصيل في حلقة من حلقات پودكاست لين. ولن يسعنا هنا شرح ذلك.ـ
ومما قد تظهر فيه صعوبة التفريق بين الوظيفتين استمرار الانتباه على مؤثرات غير مرغوبة أو غير مسلية، أو الانتباه لسيل من المعلومات التي يصعب أو يتعذر فهمها، حيث يبدو هنا تحديد الفرق بين الانتباه والتركيز صعباً. بل قد يبدو لكثير منا أن مجرد استمرار الانتباه لأي سبب وعلى أي مؤثر مسألة متطلبة لتعمد وبذل للجهد. والحقيقة هي أن الخلط هنا متوقع لأن وظيفة التركيز تعتمد أساساً على وظيفة الانتباه وتنطلق منها بسلاسة وكأنها امتداد لها. يستطيع كثير من الناس الاستمرار في الانتباه لفترات طويلة دون جهد، ولكن نسبة أكبر من الناس يبدأ التشتت لديهم بعد عشرين دقيقة تقريباً (تزيد أو تنقص باختلافات فردية) من الانتباه المستمر، وعندما يبدأ التشتت، فإن تقييم الفرد لأهمية المؤثر أو مصدره ودافعيته للاستمرار في إدراكه تؤدي للابتداء في بذل الجهد المتعمد. وقد يكون الابتداء في استخدام التركيز هنا انتقالاً مفاجئاً أو تدريجياً. لذلك يبدو وكأن التركيز هو العامل الأساسي، بينما كان مكملاً للانتباه.ـ 
وفي المواقف التي يواجه فيها الفرد انغماراً في معلومات كثيرة أو متشابكة أو صعبة الفهم، فإن محاولة الفهم والجهد في تفسير وربط المعلومات يستحوذ على قسط من الانتباه، فالتفكير والجهد المعرفي المبذول للفهم وربط المعلومات مؤثرات داخلية يُوَجّه لها الانتباه، مما يؤدي لما يبدو وكأنه تشتت في الانتباه وضعف في كفاءته، ولكنه ليس تشتتاً حقيقياً (لأن المؤثرات التي تتنافس على الانتباه داخلية) ولكنه يؤدي بالفعل لضعف في كفاءة الانتباه لمصدر تلك المعلومات.ـ
وقد يتساءل البعض عما يحدث في حالات مثل التأمل
Meditation
 والإيعاء 
Mindfulness 
الأيعاء ترجمة سبق لي أن اقترحتها بديلاً لاختيارات لا أجدها مناسبة مثل "اليقظة الذهنية" و"الحضور الذهني" وغيرها)
كما قد يتساءلون عن "الخشوع" في العبادات وغيرها من الظواهر المتشابهة. ليس الإيعاء تركيزاً بالمعنى الذي طرحته بعاليه. في التركيز نحدد بالضبط ما نريد الانتباه له. على سبيل المثال، نريد أن ننجز مراجعة فعالة لمادة الرياضيات استعدادًا لدخول اختبار فيها بينما لا نجد متعة في القيام بذلك. سيتطلب ذلك جهداً عالياً منا. أما ما يحدث في الإيعاء فهو تحديد نطاق واسع من المؤثرات واستثناء ما سواه بحيث أن أي مؤثر في ذلك النطاق، دون علم مسبق بماهيته، يمكن إدراكه وإدخاله في الوعي. لذلك فهو وظيفة تشبه التركيز في كونه محدداً لنطاق الانتباه ويختلف عن التركيز في كونه غير محدد لماهية المؤثرات التي يمكن الانتباه لها في ذلك النطاق. قد يبدو هذا الفرق طفيفاً ولكنه في الواقع فرق كبير في طبيعة الجهد المبذول لتطبيق الوظيفة. ففي التركيز تبذل وظائف الدماغ التنفيذية جهداً عظيماً وتقاوم من خلاله أثر الحالة الوجدانية ووضع  من الضغوط التي تصاحب حالة التركيز. بينما في الإيعاء التلقائي (وهو حالة تسمح بإدخال مؤثرات إلى نطاق الوعي قد لا يدركها الفرد إن لم يسمح انتباهه لإدراكها لسبب ما) يبدأ الفرد من وضع يتسم عادة بالهدوء الوجداني، وفي الإيعاء المتعمد (كما يحدث عند استخدامه في العلاج النفسي) يبدأ الفرد بتهدئة الوضع الوجداني عادة ثم يبذل جهداً لتحديد نطاق الانتباه ولكنه في أغلب الأحايين جهد أقل مما يتطلبه التركيز الشديد على مؤثر واحد أو مصدر للمؤثر. لذلك فإن أغلب الظواهر الناتجة عن حالة الإيعاء سببها الانتباه داخل نطاقه. أما الخشوع في العبادات فإنه ظاهرة تقع في تقديري (ولا أعلم بوجود دراسات محددة بخصوص ذلك) في موقع بين التركيز المحبط لتدخل الحالة الوجدانية من جهة، والإيعاء المتعمد من جهة أخرى، وربما كان أقرب للأخير.ـ
ينشأ عن وجود الاختلافات بين طبيعة الانتباه والتركيز اختلافات في الاضطرابات التي تؤثر على هذه الوظائف… فالاضطرابات المؤثرة في الانتباه تُضْعِف التركيز بالضرورة، وليس العكس. وقد يظن المرء بأن مشكلته في التركيز سببها قصر مدة الانتباه، بينما لا خلاف على الانتباه لديه، ويحدث ذلك في اضطرابات مثل الاكتئاب مثلاً. عدم القدرة على الانتباه يحدث في اضطرابات شديدة تؤدي لفشل الدماغ وتظهر على شاكلة اضطراب الهذيان
 (Delirium)
لكن قصور الانتباه (قصر مدة استمراره) قد يكون اضطراباً نمائياً مثل تشتت الانتباه وفرط الحركة
 (ADHD)
 مدة استمرار الانتباه تطول تدريجياً أثناء النمو في سنوات الحياة الأولى، ولكن يحدث ذلك ببطء أكبر لدى كثير من ذوي الاضطرابات النمائية. ولضعف الانتباه تأثير على قابلية التعلم، وبخاصة ما نتعلمه تلقائياً وبدون جهد. وقد يستطيع ذو تشتت الانتباه بذل جهد عظيم لإنتاج شيء من التركيز لسد شيء من الفجوة الناتجة عن قصور الانتباه، ولكن الاستمرارية في ذلك صعبة جداً.ـ
 ولأن إدارة الضغوط والحالة الوجدانية مؤثرة على قدرة استمرار الانتباه، فإن القلق، على سبيل المثال، يُضعِف تلك القدرة وقد يبدو وكأن الانتباه مشتت. وكذلك يتشتت الانتباه لدى من يمر بنوبة هوس، حيث أن المتعة أو الارتياب مشاعر تُثار عن طريق مؤثرات عديدة في ذات الوقت، كما أن تسارع وتيرة الأفكار في الهوس يساهم في نقل الانتباه من مؤثر لآخر بسرعة. وتوجد أمثلة عديدة لتأثير الاضطرابات المختلفة على الانتباه يتعذر حصرها هنا.ـ
 في المقابل فإن ضعف التركيز (كما في الاكتئاب) قد يؤدي لضعف في الذاكرة حتى ولو لم يكن لدى المرء اضطراب معرفي مؤثر في الذاكرة بشكلٍ مباشر. لذلك قد يؤدي الاكتئاب لدى المسنين لظهور أعراض ضعف في الذاكرة قصيرة الأمد تثير الشك في وجود اضطراب عصبي معرفي (أو ما كان يُسمى بالخرف)
 Dementia
وللأدوية تأثيرات مختلفة على الانتباه والتركيز. توجد أدوية تساهم في استمرارية الانتباه وتُستخدم في علاج اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه. بينما في الحالات التي تكون فيها وظائف الدماغ متأثرة بوضع فيسيولوجي أو مرضي أو سمي قد يؤدي لفشل جزئي أو كلي للدماغ، فإن ذلك يُضعف الانتباه وتوجد أدوية تفاقم ذلك الوضع أو تساهم في نشأته. أما بالنسبة للتركيز، فكونه معتمداً على الانتباه أساساً يعني أنه يتأثر بما يؤثر على الانتباه. لكن من الممكن مثلاً أن تقلل بعض الأدوية من العوامل الوجدانية التي تزيد من الجهد المطلوب للتركيز، وبذلك يتحسن. ومن الممكن لبعض الأدوية أن تؤثر سلباً على القدرة على التركيز قبل أن تؤثر على الانتباه (أي بجرعات أقل) حيث أن تأثيرها على الوظائف التنفيذية المسؤولة عن التركيز يبدأ أولاً قبل أن تؤثر على الانتباه.ـ
 هذه الفروق، على الرغم من أهميتها، دقيقة والخلط بين الوظيفتين أمر أحببت أن يقِلّ وبخاصة بين المختصين والمتدربين في مجالات الصحة النفسية.ـ

والله من وراء القصد

Back to Top