أتصارع مع دافع إعلام العامة بشكل مبسط عن معايير تشخيص ما، عن ظواهر اضطراب ما، عن طرق علاج مرض ما، عن الآثار الجانبية أو العلاجية لدواء ما... أَجِد في ذلك الدافع، على الرغم من مبتغاه السامي وهدف نشر العلم، خطراً كبيراً لا أعلم في أغلب الأحيان كيف أسيطر عليه...ـ
أَجِد في كثير من تلك الجهود فوائد جمة، وأضراراً تنافس الفوائد في أثرها! عندما أُقيّم مريضاً بالغاً وأقضي ما يكفي من الوقت لشرح منظوري عما استشارني لأجله، أو أقيّم طفلةً وأشرح بعمق وتفصيل وافٍ لذويها ما وجدت في تقييمي وما أنصح به للعلاج، فإني "أُفَصّل" شرحي كما يخيط الخياط ثوباً لزبونه
أَجِد في عيادتي أني أبذل جهداً لتصحيح معلومةٍ أُسيء فهمها، لمسح علمٍ خاطئ وإعادة تعليمٍ على أساس أصحّ وبشكل متفردٍ منطبق على الحالة وليس غيرها. أَجِد أمهاتٍ وآباء قد منحوا أنفسهم القدرة على التشخيص ووصف العلاج بناءً على ما قرأوا أو شاهدوا في وسائل الإعلام والتواصل المختلفة...ـ
من المختصين من حذّر من استشارة "الدكتور چوچل" أو "الدكتورة يوتيوب"، متجاهلين أن نسبة لايستهان بها مما يجده الناس لديهما صدر عن مختصين أمثالهم، لكن إيصال علم المختص للعامة قد يتطلب ضرورةً من درجات التعميم والتبسيط والاختصار ما يحقن مادتهم الهادفة بسموم خفية تصيب بعض من يلتهمها بضرر
من السموم الخفية ما يؤدي لممارسات تخصصية يقوم بها غيرالمختص، ومنها ما هو أكثر خفاءً من ذلك: فقديجد المختص في الجمهور من تبهره وسيلة الحديث عن تشخيص المرض أوعلاجه، فيظن أن لدى صاحب المادة الإعلامية ما انتهى إليه العلم أوأعلى درجات المهارة والكفاءة. لكن أينطبق ذلك على هذا المختص الإعلامي؟
في واقع الأمر، فإن الكثير من المختصين الذين ينشرون مواد إعلامية عن تشخيصٍ ما أوعلاجٍ ما موجهة للعامة هم ممن بهرتهم المادة التي أرادوا بها إبهار جمهورهم. كثير منهم يبادر بنشر ما بدأ في تعلّمه قبل أن يتمكن منه، فربما طغى إغراء وسيلة النشر وجاذبية إعجاب الجمهور على أهمية الدقة والحرص
من المؤكد أن من زكاة العلم نشره، إضافة للعمل به والصدع بالحق عندما يكون الجهل أسلم. لكن نشر العلم كهدف نبيل لا يعدو أن يكون غاية. وليس للغاية أبداً أن تبرر الوسيلة إن كان في الوسيلة ضرر غير متعمد. لذا أجد نفسي في غاية التردد عند شرح مادة علمية أعلم ما وراءها من تعقيد...ـ
فماذا أفعل إذن؟ وجدت راحةً في البعد عما يُغري القارئ لتجربة مهاراته التشخيصية أو العلاجية التي قد تستثيرها قراءة وصف الاضطراب أو عرض لعلاجه. وجدت أماناً في نقل محتوى الأبحاث العلمية للقارئ المختص دون تبسيط (أو تعريب)، والانتقاء منها للعامة ما يُمكّنني بالصدع لحقيقة علمية إن لزم الأمر
وجدت فائدة في شرح مسألة علمية دقيقة وبعمق وتبحر دون اختزال ولكن بلغة قد تصل لغير المختص، طالما كان ما أكتبه بعيداً عن وظيفة التشخيص ووصف العلاج. وجدت أن مقالاً يسعى لوصف مجال من المجالات العلاجية أو تخصصاً من التخصصات قد يُغري بعض قرائه لاستكشاف المجال وربما دراسته "قبل" تطبيقه...ـ
لست هنا في مقام الحكم على ما يفعله غيري، ولن أدعو زملاء المهنة بأن يتوقفوا عن نشر الوعي. على العكس من ذلك، أدعوهم أجمعين بأن يُزَكّوا عن علمهم، وأن يساهموا في نشر الوعي ومحاربة وصمة المرض. لكني أدعو نفسي وإياهم للتأمل والتريّث والاختيار بعناية لمحتوى ما سينشرون من علم وكيفية النشر
أدعوهم لذلك لأني قد وجدت مقابلاً للمثل الشائع "رُبّ ضارّة نافعة" ألا وهو: "رُبّ نافعةٍ ضارّة". وأخيراً فإن ما ينتج عن الجهد في علم الغيب، ولعل في إخلاص النية عند الاجتهاد خلاص للمجتهد. والله من وراء القصد