‏كتبت مقالاً قبل عدة سنوات عن الإيثار 👇ـ


‏أود أن أضيف إليه جانباً من الموضوع لم أتطرق إليه في المقال، وهو أن الإيثار لدى بعض الناس ضارّ بهم!ـ
‏ولكني أرجو أن تقرأوا المقال قبل متابعة هذه السلسة من التغريدات…ـ

‏كما يتضح في المقال فإن الإيثار قد يكون آلية دفاعية يلجأ لها الأنا… وعلى الرغم من كونه آلية دفاعية مصنفة بين الآليات الناضجة، وكونه وسيلة لصنع الفرق وفعل الخير ومنفعة الآخر، إلا أن للإيثار  عدة أوجه وينشأ بشكل معقد يتطلب ربطاً أو تركيباً أو تسلسلاً لآليات دفاعية أساسية أخرى

‏على سبيل المثال: إحدى طرق إنشاء الإيثار تركيبة من آليتين دفاعيتين أكثر بدائية منه، تبدأ بالإسقاط، وبعد نجاح الإسقاط يحدث التماهي مع من اُسقِط عليه… ولعلي أشرح كيفية حدوث ذلك بمثال بسيط:ـ
‏يجب أولاً أن نعلم أن الأماني، ومعظمها لامَوْعيّ، يندر أن تموت، وإنما تجد وسيلة ما لتتحقق

‏(من تلك الوسائل مثلاً تحققها في الأحلام)، ولكن الأماني التي يظن الأنا أن في تحقيقها خطر أو أن تحقيقها منافٍ لمبدأ الواقعية، فإنها قد تتحقق بشكلٍ غير مباشرٍ عن طريق استخدام آليات دفاعية معينة وبشكل يحمى الذات من الخطر أو يتماشى مع مبدأ الواقعية…

‏فلننظر مثلاً لسلوك صديق (أ) مع صديقه المقرب (ب) في حال تحقيق 'ب' لإنجاز كان 'أ' يطمح بإنجازه ولكنه يعجز عن ذلك… هنا ساعد 'أ' صديقه 'ب' وأعانه على تحقيق الإنجاز بكل إخلاص وبجهد كبير ثم شعر 'أ' بفخر عظيم بصديقه وعمته البهجة وقام بتشجيع 'ب' وتعزيز نجاحه.

‏يُعَدّ هذا مثالاً على الإيثار من المنظور التحليلي، وقد كان آلية دفاعية هنا. أسقط 'أ' أمنيته على 'ب'، ثم تماهى مع 'ب' فكان تحقيق 'ب' للإنجاز تحقيقاً لأمنية 'أ'. لم تعد تلك الأمنية مصدراً للإحباط والقلق، فالحل الذي توصل إليه الأنا لدى 'أ' أزال تلك المشاعر السيئة وأدى للاستقرار

‏لا يوجد هنا ما قد يبدو أن فيه ضرر، بل منفعة مشتركة بين الطرفين… لكن تخيلوا معي أن يسعى 'أ' لتحقيق كل أمانيه أو جُلّها بهذه الطريقة… تخيلوا خواء حياته من تحقيق أهدافه ورغباته وطموحاته، تخيلوا أنه استعان بمصادر خارجية، أشخاص آخرين، يُعَبّر من خلالهم عن كل دوافعه…

‏لا توجد مساحة لديه لغرائزه، ولا مقومات لديه يمكن لها أن تكون ما تستند عليه ذاته… لم تعد العلاقات الهامة في حياته مكونات مكتملة الاستدخال في تكوينه، فقد تحول هؤلاء إلى مندوبين مفوّضين بتحقيق رغباته وحسب. على أرض الواقع نرى ممن يخضع للعلاج النفسي أشخاصاً لا تهمهم حيواتهم

‏ولا يخشون الموت وقد يسعون إليه أو لا يجدون في الحياة سوى ما يجدونه من خلال إيثارهم مع آخرين هم أهم العلاقات لديهم. نجد لديهم في المقابل رعباً لا يمكن وصفه من موت أي من هؤلاء الآخرين في حيواتهم. بل قد يكون موت المعالج (بعد نشوء علاقة علاجية عميقة) أكثر مصادر الرعب أثراً عليهم

‏بعض هؤلاء يُفَعّلون الإيثار مع معالجيهم! يسعون لأن يكونوا "مرضى مثاليين" ليُسعدوا المعالجين أو يُشعروهم بالفخر والقدرة على الإنجاز. يُصبح رضا المعالج مصدراً لتحقيق أمانيهم، ويكون ضرورياً حماية المعالج من أي مشاعر سيئة مثل الإحباط أو الملل، أو الامتناع عن التعبير عن غضبهم منه

‏هنا تحول الإيثار إلى آلية دفاعية أساسية في تكوين شخصية تتسم باضطرابٍ يخفى عن من حولها… تحصل على حب الآخرين وربما ثناءهم، بينما تعاني داخلياً من الخواء… يُسعدها إدخال البهجة لدى الآخر، ولكن تلك السعادة لا تدوم، ويحيط بها القلق الشديد على ذلك الآخر…

‏ويكثر أن لا تستطيع شخصية كهذه أن تُكَوّن سوى عدد محدود من العلاقات في حياتها، فكل علاقة بحاجة لجهدٍ عظيم وتخصيص للانتباه وتوجيه لكمّ ضخم من القلق…
‏لذلك، فإن من أغرب عجائب النفس البشرية قدرتها على تحويل ما يبدو أنه ضارّ لمنفعة وتحويل ما يبدو أنه نافع إلى ضرر…

‏ووراء كل ما نعيه في خبراتنا ما لا نعيه، وفي ما لا نعيه ما يوجّهنا دون علمنا… وقد تقبع وراء بعض البهجة معاناة أحكمت اختفاءها عن أنظارنا…
‏لذا أرى أن كثيراً ممن يفنون حيواتهم لغيرهم بحاجة لتراحمنا قبل ثنائنا…

ـ #إفشاء_التراحم⁩ 

‏والله من وراء القصد

Back to Top