بعد لقائي مع
في #پودكاست_فنجان من إذاعة
وصلتني على الخاص رسائل عديدة وقرأت تعليقات كثيرة على وسائل التواصل تتساءل عن كوني مكتئباً أو متأثراً بحالات مرضاي أو من فقدت لانتحارهم. أود هنا مشاركتكم بما تبادر إلى ذهني بخصوص ذلك:ـ
أولاً
أثلج صدري قدرة بعض من تابع اللقاء على الوصول للحالة الوجدانية التي شاهدوها، أي أنهم لم يتوقفوا عند محتوى ما قيل. هذه المواجدة معي أمر لايمكن لي تقديره بثمن. تلك المواجدة وتعبيرات الدعم والتراحم التي وصلتني من بعضهم زادت من ثقتي في المعدن الطيب الذي يسود مجتمعنا. لا حد لامتناني
ثانياً
توجد ظاهرة إنسانية ربما لا تكون منتشرة بما يكفي عند من عبّر عن بعض هذه الملاحظات، وهي تناغم الحالة الوجدانية للمتحدث مع ما يثيره محتوى الحديث. وسواءً كان ذلك في حالتي أو في حالة أي شخص، فإن لهذا التناغم دلالات هامة فيما يتعلق بالمصداقية ودقة الوصف بعداً عن التضخيم أو التقليل مما يدور حوله الحوار. إلّا أن هذا التناغم الوجداني لحظي ويجاري السياق وينتهي بانتهائه. ولذلك فإنه لا يدل على الحالة الوجدانية العامة التي يمر بها المتحدث. إنما لو كان للحالة الوجدانية العامة التي تؤثر على الشخص في كل أوقاته أو جلّها أثر كبير على درجة الانفعال للسياق وابتعدت بها عن ما يناسب محتوى الحديث فقد يكون ذلك علامة لاضطراب في الحالة الوجدانية، كالاكتئاب مثلاً. لذلك فإن الحكم على لقطة أو مقطع قصير مضلل في أغلب الأحيان.ـ
ثالثاً
بالنسبة إلى تأثر المعالج بمن يعالج، فإن للاستغراب لحدوث ذلك معانٍ، لعل منها:ـ
قد يغيب عن أذهان كثير منا كون المعالج من جنس البشر بل وربما كان ذا قدرة أعلى من المتوسط على التواصل الوجداني مع الآخر. قد نراهم مختلفين عنا بينما هم منا ونحن منهم، وقد نرى اختلافاً عنا لأنه يريحنا…ـ
وقد يكون الاستغراب جزءاً من ميلنا لوصم كل ما يتعلق بالصحة النفسية، فقد يميل بعضنا للظن بأن الممارس في المجال لا يسلم من الأمراض التي يعالجها، أو أنه اختار المجال ليعالج نفسه، أو أن تعرضه لمآسي الآخرين لابد وأن يؤدي للمرض… وغير ذلك من الاعتقادات والتوقعات… إلا أنه لا توجد لمثل هذه التساؤلات إجابات موحدة أو سهلة أو قاطعة بالنفي أو الإيجاب… فإنما المعالج بشر، وتتكون بينه وبين من يعالجه علاقات طالت أو قصرت لكنها قد تكون ذات عمق ربما نَدُر في غيرها، فإن لم يكن لما يحدث فيها أثر عليه فإن ذلك هو ما يجدر الاستغراب منه.ـ
من غير المبرر، ولأسباب عديدة، الاستنتاج بأن نتيجة التعرض لمآسي المرضى هي الإصابة بالمرض… من تلك الأسباب ما هو عام وما هو خاص. فمن الأسباب العامة أن كل منا يمر بخبرات علاقية صعبة في حياته، ولا يصيب الاضطراب كل من مر بمثل تلك الخبرات وإن كثرت وعظمت. ومن الأسباب الخاصة أن المعالج غالباً ما يتعامل مع العلاقة العلاجية من خلال إطار مهنيّ، ووجود هذا الإطار يضيف درجة من المناعة والمعاودية لدى المعالج، كما أنه ربما يمارس ضمن منظومة علاجية قد يتوفر فيها كثير من الدعم للمعالج. كما أن بعض المعالجين يحصلون على إشراف على ممارستهم. كذلك فإن بعضهم يحصل على العلاج النفسي، ليس فقط لأنهم كغيرهم من البشر، ولكن مرور المعالج بخبرة الحصول على العلاج مفيدة له مهنياً. وكل ذلك مما يزيد من قدرة المعالج على استقبال معاناة الآخرين والتعامل معها بكفاءة. وكلما كان المعالج على درجة أعلى من الوعي بما يدور في عقله وبحالته الوجدانية، ربما كان أكثر قدرة على التواجد المفيد وجدانياً للمريض. ومع ذكر كل ذلك، لابد من ذكر كون ممارسة كثير من المعالجين بعيدة عن هذه العوامل المهنية المساندة، مما يزيد من تعرضهم للتأثر بخبراتهم مع المرضى.ـ
رابعاً
أما مسألة فقد مريض للانتحار وأثر ذلك على المعالج أو الطبيب… فنحن هنا نواجه ظاهرة فيها ما هو عام في الطب والتخصصات الصحية، وفيها ما هو خاص بممارسة التخصصات النفسية.ـ
فأما العام منها فهو أن التخصصات الصحية عامة، والطبية خاصة، تعرّض ممارسيها لاحتمال فقد المريض للموت، وتختلف الاحتمالات باختلاف التخصصات. فمن يمارس في العناية المركزة أو العناية التلطيفية أو طب الأورام أو جراحة الإصابات الطارئة مثلاً مُعرّض لموت مرضاه بشكل ربما تكرر يومياً أو عدة مرات في الأسبوع. بينما قد يندر ذلك في تخصصات أخرى. لكني لا أعلم عن تخصص طبي لا احتمال لحدوث ذلك فيه على الإطلاق. وما يختلف أيضاً بين التخصصات المختلفة هو الدرجة المباشرة في سلوك التدخل لإنقاذ المريض من احتمال الوفاة ونوع هذه التدخلات من جهة، ووجود علاقة علاجية مع المريض وعمق تلك العلاقة من جهة أخرى. فقد يعمل الطبيب الجراح بيديه بشكل مباشر، وقد يعمل الطبيب النفسي من خلال علاقته بالمريض… لذلك قد تختلف طبيعة آثار فقد المرضى على الأطباء باختلاف تخصصاتهم، مع كونها مؤثرة عليهم أيّاً كانت تخصصاتهم. وقد يكون لفقد المرضى أثر على صحة الطبيب النفسية أو الجسدية أو كليهما. ويختلف البشر في قدراتهم على التعامل مع هذه المواقف اختلافاً واسعاً ولا نستثني من ذلك الأطباء… وربما يكون للإطار المهني كما ذكرت دوراً في التقليل من تلك الآثار، لكن ليس للأطباء مناعة مطلقة منها. وينطبق هذا على الممارسين في الصحة النفسية كذلك، سواءً كانوا أطباء أو لم يكونوا، بالضبط كما ينطبق على ممارسي التمريض والعناية الإسعافية والعلاج التنفسي وبعض تخصصات الصيدلة وغيرهم… فلذلك لعله من المفارقة هنا أن للمعالج النفسي والطبيب النفسي دور في دعم وعلاج الأطباء والممارسين الصحيين عامة والذين هم معرضين لما يتعرض له كافة البشر وإن كانوا أكثر استعداداً للتعامل مع ما يتعرضون له. شرحت هذا هنا لأن شيئاً من ردود الفعل التي لاحظتها ينم على تخصيص الطب النفسي بتلك الأمور، وهو وصم مجحف.ـ
وأما الخاص في مسألة فقد المريض للانتحار فهو أن لأثر فقد معالج نفسي لمريضه طابعه المتفرد. فعمق العلاقة العلاجية، وقد تتراوح من حالة لأخرى، مختلف غالباً عن علاقة الطبيب مع المريض في العناية المركزة مثلاً. لذلك فإن لفقد المريض معانٍ وآثار تخص هذه العلاقة الفريدة. وليست المسألة دائماً متعلقة باعتقاد المعالج بأن مسؤولية إنقاذ المريض تقع على عاتقه، وهو اعتقاد، إن وُجد بهذا الشكل القاطع، غير دقيق مهنياً. فليست مسؤولية أي ممارس صحيّ في أي تخصص، بما في ذلك المعالج النفسي، سوى تقديم الممارسة الصحية السليمة التي يتطلبها المريض وتتطلبها حالته. يُحَمّل بعض الممارسين الصحيين أنفسَهم مسؤوليةً ليست لهم أحياناً. فمن الممارسين من وضع نصب عينيه تحقيق هدفٍ بطولي خارق بشكل مَوْعيّ أو، كما هو عند الأكثرية، بشكل لامَوْعيّ. وقد يكون تأثرهم بفقد المريض لأسباب أخرى عديدة، يغلب أن تكون خاصة بالمعالج وخبرات حياته الخاصة وتكوين شخصيته. وقد يكون ناتجاً عن مجريات العلاقة الفريدة التي تكونت مع مريضه بحيث نَصّبه المريض منقذاً له وقبِل المعالج بذلك الدور دون وعي منه. وكل ذلك مما يمكن النظر فيه من خلال العلاج النفسي لذلك المعالج/الممارس الصحي.ـ
لذلك كله وجدت في بعض ردود الأفعال للقاء ما دفعني للكتابة هنا. ولعل في إلقاء الضوء على ما كتبت عنه هنا ما يفيد. في نهاية الأمر، نحن بشر نتعامل مع بشر ونتحدث عن تعاملاتنا البشرية بما يشوب كل ذلك من غموض البشر وميلهم للزلل والنقصان من جهة، وتخصصهم عن غيرهم من الخلق بالاستجابة عاطفياً لخبرات البشر من جهة أخرى.ـ
والله من وراء القصد