تخيل لو كنت تشاهد علياً كرم الله وجهه حينما سأله القاضي شُريح بن الحارث عن بيّنة امتلاكه للدرع ورفض شهادة ابنه الحسن رضي الله عنه...ـ
تشاهد ما يحدث وأنت بالتأكيد منحازٌ ومحبٌ له كما ينبغي وكما هو أهل له، تؤمن بصدقه. تشاهد ما يحدث وأنت تعلم مسبقاً أن شريحاً سجن ابنه في قضية أخرى
تشاهد ما يحدث بدون علمٍ بنهاية القصة... وهذا شرط مهم هنا: تشاهد وكأن الموقف غريب عليك لم تسمع به أبداً. ماذا تظن أنك ستشعر تجاه القاضي؟
ألا تظنون أن لمشاعر ناتجة عن الانحياز السابق للحادثة أثراً في المشاعر اللتي تولدت تجاه القاضي المطالب للبيّنة الرافض لشهادة الحسن؟
أجزم بأن تلك المشاعرمتفردة ومختلفة لدى كل من يقرأ هذا السؤال. إلا أن نسبة مرتفعة من القرّاء ستشعر بمشاعرسلبية نحوه إن التزموا بشرط جهل نهاية القصة
لم أطلب منكم تجربة الموقف في خيالكم لأشرح أنواع الانحياز والتفرقة، والتي تتخصص فيها دراسات عدة من المنظور النفسي ومن مناظير أخرى...ـ
والتي يجتهد المنهج العلمي في البحوث للتقليل منها أو تفاديها خشية إضعاف مصداقية المخرجات البحثية، ويعتبر الجهد المبذول في تفاديها دليلاً للجودة...ـ
بل لألفت نظركم لمسألة أخرى: لا اختلاف على ضرورة قيام القاضي بالنظر في الأدلة محايداً، ولكن سلوكه ذلك أثار فينا ما أثاره من مشاعر...ـ
على الرغم من كونه سلوكاً نقبله لو لم نعلم شيئاً عن المتخاصمين، ولكنه إن أثار فينا مشاعر معينة فذلك بسبب معرفتنا لهم
أي أن المشكلة ليست في سلوك القاضي حيث لا غريب فيه ولا استثناء. المشكلة في عقل المشاهد المنحاز لأحد الطرفين...ـ
لعلها تكون معلومة صادمة أن تعلم بأن كل مشاعرنا وأفكارنا الانفعالية، مهما كان الموقف، منحازة لدرجة ما، وبشكل ما قد يكون متفرداً أو مشتركاً
تأمل هذه الحقيقة للحظة، ستجد أن كل ما هو مخزون في عقلك من ذكريات وجدانية وتجارب وخبرات ومعلومات صحيحة وأخرى خاطئة...ـ
لكل ذلك أثر أو احتمال الأثر، طفيفاً كان أم عظيماً، مَوْعِيّاً كان أو مخفياً عن الوعي، على كل انفعال لموقف جديد، وكل حكم نطلقه على الآخر...ـ
وأننا في الغالبية العظمى من الحالات لا نعي وجود ذلك الانحياز بل قد ننكره بشدة أو لا نعي القصة الداخلية التي ولّدته في عقولنا...ـ
فكر في ذلك عندما تحس بالارتياح أو الانجذاب لشخص لم يمض من زمن لقائك به سوى ثوان أو دقائق معدودة...ـ
تذكر ذلك عندما يصيبك الخوف أو التوجس عندما تلمح لجزء من الثانية شخصاً ربما كان مختلفاً عنك في الهيئة أو لون البشرة أو في الديانة
تأمل في ذلك عندما تستثار داخلك مشاعر قوية، سلبية كانت أم إيجابية، عندما ترى تعبيراً عن الحنان بين شخصين، أو سلوكاً مغايراً للنسق المعتاد
ماذا لو استطعنا استحضار هذه المعلومة كلمنا انفعلنا لأمر أو خبر جديد؟ ماذا لو أخذنا في الاعتبار انحيازاتنا عندما نحكم على الآخر؟
أدعوك لتخيل الموقف من منظور آخر، بل أكثر من منظور. تخيل نفسك في الموقف، غير جنسك ولباسك وثقافتك وتقمص دوراً آخر. تقمصه وكأنه أنت محباً لذاتك
تقمصه وأنت في داخلك لم تختلف كما اختلف ظاهرك... تبادل الأدوار مع آخرين تحبهم ومع من تكرههم. ثم احكم على الموقف أو الشخص من جديد في كل مرة...ـ
مما يزيد المسألة تعقيداً وجود مشاعر وأفكار وتوقعات متعلقة بمن هم يشاهدون نفس الموقف أو يحكمون على نفس الشخص... عامل مهم آخر ومؤثر ينبغي شرحه
ألا وهو أن انفعالاتنا وأحكامنا تعاني من أثر ما يمكن تسميته ب "الانحياز الجمعي المُتَخَيّل"، أي ما نتوقع كونه انحياز المجموعة التي ننتمي إليها
لكي أشرح هذه المسألة، لننظر لإحدى غرائب ثقافتنا: ظواهر متعلقة بالحكم على سلوكيات تم تناقل أخبار عنها في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي
ستجد في الانفعالات لكثير من هذه الأخبار أحكاماً مساندة، وأخرى مضادة، وربما أحكاماً تقع على نقطة ما على خط النطاق الفاصل بين الضدين...ـ
ليس في ذلك ما هو غريب إن فهمت مدى اختلاف المؤثرات السابقة للاطلاع على الخبر عند الناس... لكن معظم من يحكم على الخبر يستغربون وجود الاختلاف!ـ
في الموقف السابق سيكون مستغرباً أن لا ينحاز الجميع لعليّ. الفارق بين هذا الموقف وبين مايحدث يومياً من الحكم على الآخر أننا نعلم بانحيازنا مسبقاً
جزءٌ من استغراب الاختلاف ناتج عن نوع آخر من الانحياز، وهو توقعنا لتشابه فكرنا مع من حولنا... وكأنه انحياز للانحياز!ـ
لعل من العوامل التي قد تفسر هذا هو أن المنظور الذي يكونه الفرد لأموركثيرة في حياته يتبع أنماطاً ونسقاً مرتبطة بنشأة الهوية... الهوية الذاتية
نشأة الهوية أمرٌ في غاية التعقيد، إلا أنها تشتمل هوية جمعية، أي أن الهوية ليست منحصرة على تشكيل "الأنا" بل ترتبط بتكوين "نحن" كذلك...ـ
لننضم لـ"نحن" يجب وجود قدر كافٍ من التطابق، وهنا يسهل على الشخص إسقاط انحيازاته على من انضموا في نطاق "نحن"، من لديهم عضوية في هويته الجمعية
الإسقاط هنا ليس لنبذ عنصرٍ داخلي، بل لإشراك الآخرين مع الذات في ملكية ذلك العنصر. كأن يجزم المشاهد انحياز كل من في المجلس لعليّ بن أبي طالب
لكن اختلاف من نتمنى أو نتوقع عضويته في "نحن" يهدد استقرار هويتنا الجمعية، يهز ذواتنا. اختلاف من نتمنى أو نتوقع أن يكون من "هُم" يعزز هويتنا
إذن فإن استقرارنا داخلياً قد يكون جزءاً مهماً في تحديد الكيفية التي نحكم بها على الآخر وعلى المواقف...ـ
إنها أنانية الذات ورغبتها في الحفاظ على ما صقلته من هوية عبر سنين النشأة. وكلما قلّ استقرار الهوية أساساً كلما ازداد الدافع في الحفاظ عليها
وبالتالي فإن درجة انفعالنا وشدة جدالنا وعمق المشاعر التي تستثار فينا عند اختلاف الآخر معنا قد يرتبط، ولو جزئياً، بمدى استقرارنا الداخلي!ـ
ألايدعونا هذا الفهم لتأمل ردود أفعالنا؟ للنظر فيما يدفعنا للدخول في المعارك الكلامية؟ وفيما يقودنا لمحاولة إقناع الآخر بكل طاقاتنا بدلاً من قبولهم؟