ما هو الحب؟ وأقصد هنا كل ما نسميه حبّاً وليس فقط الرومانسيّ منه
هل هو ما يتحدث عنه الشعراء في غزلهم؟
هل هو "الرومانسية الجياشة"؟
هل هو الإعجاب والانجذاب وشغف العشق وتسارع النبضات وإثارة الشهوة؟
يبدو لي في جُلّ المتداول عن الحب أن تلك الأوصاف هي ما يعنيه أكثر الناس عندما يستخدمون الكلمة…ـ
ولكني سأطرح فهماً مختلفاً هنا… وأظنه مخيباً لآمال كثير من الناس…ـ
الانجذاب الذي يحدث عند أول التقاء لا يحدث بشكل سحري. فهو نتيجة كون خبراتنا العلاقية السابقة لذلك اللقاء قد هيأتنا لننجذب لأشخاص دون غيرهم، فيهم من السمات ما يريد عقلنا أن تكون فيمن نرتبط بهم عاطفياً…ـ
وليس هذا الانجذاب سوى خطوة تمهيدية للخوض في مرحلة تليها… إن استطاع الانجذاب أن يؤدي إلى بداية علاقة، فهنا تبدأ مرحلة تجريبية. التجربة تهدف لتوكيد كون الآخر مناسباً لما حددته قوالبنا العلاقية مسبقاً. فإن وجدته مناسباً كانت نتيجة التجربة نشوء مشاعر جياشة واستثارة قوية وشغفاً متنامياً...ـ
وليست هذه المرحلة التجريبية حبّاً إن كنا نفهم الحب بأنه رابط عميق مستديم. الحب 'رابط' بمفهوم نظرية الترابط التحليلية (واسمها الشائع هو نظرية التعلق)… ويعتريه كل ما يعتري الروابط التي تتكون بين الرضيع وأمه.ـ
مرحلة الانجذاب توازي مرحلة ما قبل الترابط لدى الرضيع…ـ
الرضيع مهيأٌ للانجذاب للبشر بيولوجياً، ومهيأٌ للانجذاب لأمه لأنه اعتاد على مؤشراتها الفيسيولوجية طوال مرحلة الحمل وأعتمد عليها لتنظيم وظائفه الفيسيولوجية ويستمر في ذلك الاعتماد، بدرجة أقل، بعد الولادة من خلال تفضيل التلامس والتلاصق والرضاعة والتفاعل العاطفي. يزداد "شغف" الرضيع بأمه تدريجياً خلال الشهور الثلاث الأولى من حياته، فيدخل في المرحلة التي تليها، وهي مرحلة إنشاء الرابط…ـ
لذلك فإن المرحلة التجريبية التي تحدث بين البالغين توازي مرحلة إنشاء الرابط لدى الرضيع… ولا يتوقف التشابه هنا، فكما ينتقل الرضيع من تلك المرحلة إلى مرحلة تكوين "رابط واضح المعالم" يبحث فيه عن استمرارية القرب من الأم (أو الراعي) ويتأكد فيه من استقرار الرابط، ينتقل البالغ إلى مرحلة مشابهة يستمر فيها الشغف وتزداد الرغبة في القرب من الآخر مع تنامي شعور الاستدامة والاستقرار…ـ
وكما ينتقل الرضيع بعد التأكد من استقرار الرابط (أي ثباته وأمانه) إلى مرحلة "الشراكة المُوَجّهة" حيث تصبح العلاقة محوراً أساسياً في حياة الطرفين، يحدث ذلك لدى البالغين. في هذه المرحلة تبدأ جذوة الشغف في رحلة الاضمحلال التدريجي، ويبدأ الطفل في اكتشاف المسافة التي يستطيع إدخالها بينه وبين أمه دون ظهور للقلق، وتبدأ مرحلة اختبار الاستقرار في الرابط، ويقابل كل ذلك ظواهر مماثلة لدى البالغين…ـ
وهذه الأخيرة تبدأ في منتصف السنة الثانية وتنتهي في منتصف الثالثة لدى الأطفال ذوي الروابط المستقرة. أما لدى البالغين، فقد تكون هذه مهام هذه المرحلة خفية ومستمرة لفترات طويلة، بل قد تكون مستديمة لدى من نشأوا بروابط غير مستقرة. لذا فعند البالغين تندمج هذه المرحلة مع اللاحقة لها…ـ
وهنا نتحدث عن المرحلة الأخيرة في نشوء الروابط، وهي في حقيقة الأمر المرحلة الوحيدة التي يمكننا وصفها علمياً بأنها علاقة مبنية على رابط عميق مستديم، أي أنها توازي ما يوصف بأنه "حبٌّ عميق"، وكل ما سبقها من مراحل تهيئة ومراحل للتطور وليست الصورة النهائية الحقيقية… لم تكن المراحل السابقة خالية تماماً من العمق والاستدامة، فقد كانا يتناميان منذ البداية… تطلب هذا العمق وتلك الاستدامة لوقت طويل ليتطورا بما يكفي لأن يكونا الأساس الذي تعتمد عليه العلاقة وجزءاً لا يتجزأ من شخصية كل من طرفيها…ـ
ليس من الضروري استمرار الشغف والإثارة في هذه المرحلة، فقد انتهى دور ذلك الشغف والذي كان يهدف للوصول لرابط عميق مستديم.ـ
قد يتساءل بعضكم، كيف يكون حباً عميقاً بدون شغف أو بالقليل منه فقط؟ هذه المرحلة هي مرحلة شراكة مستقرة في الحياة، يزداد عمقها كلما طال أمدها. كيف نعرف ذلك؟
نعرفه بقياس حجم الأسى الناتج عن فقد مفاجئ للعلاقة. كل فقدٍ لعلاقة يؤدي لحزن، لكن ليست شدة الحزن هنا مرتبطة بدرجة الشغف السابق للفقد، بل بعمق الرابط الناتج عن طول مدته ودرجة استقراره. مع الاختلاف الفردي في كل حالة، بإمكاننا النظر في أمثلة تُقَرّب المبدأ للفهم:ـ
لنفترض أن أماً فقدت طفلاً حديث الولادة أو ذا بضعة أشهر من العمر، فإنها بالتأكيد ستمر بحزن شديد لفقد طفلها.ـ
قارن حزنها بحزن أمّ فقدت ابنها ذي العشرين من العمر… أو حزن زوج لوفاة زوجته بعد عشرة جميلة مستقرة دامت خمسين عاماً…ـ
الأمثلة الأخيرة تؤدي أحياناً لدرجة قاتلة من حزن الفقد.ـ
إن سألتموني عن الحب "الحقيقي"، فهو ما نراه في تلك المرحلة الأخيرة…ـ
مقدماته مهمة لتمكين حدوثه، ويحدث أحياناً بدونها، لكنه حقيقي وعميق ويكون جزءاً كبيراً من ذواتنا…ـ
لكن العجيب هو أن هذا التسلسل في تكوين الروابط يحدث غالباً في تكوين كل علاقة مهمة بين اثنين، سواءً كانت علاقة بين والد وولده، علاقة صداقة، علاقة غرامية (رومانسية)، علاقة زوجية، أو حتى علاقة علاجية! قد لا تكون المُدد الزمنية في كل مرحلة بنفس طول ما يحدث في الطفولة. وليس من الممكن دائماً أن نرى توازي المراحل بوضوح. لكن عامل مرور الزمن في أي من تلك العلاقات يُظهر لطرفيه تدريجياً مدى تطور الرابط من حيث العمق والاستدامة. وتظهر في كل تلك العلاقات مظاهر القوالب العلاقية و "نماذج العمل" الناشئة من الروابط التي بدأنا حياتنا بها مع والدينا… وتؤثر أنماط تلك الروابط المبكرة في اختياراتنا لمن نرتبط به لاحقاً وفي طبيعة واستقرار تلك الروابط اللاحقة… نكرر فيها تاريخنا دون أن نعي حدوث التكرار…ـ
ألا ترون إلى ماذا يشير كل هذا؟
ماذا لو استطعنا من خلال رابط جديد عميق مستديم يختلف عما اختبرناه في ماضينا أن نُنشئ في الكبر قوالب علاقية ونماذج عمل مختلفة أو نُعَدّل في القوالب والنماذج السابقة؟ ماذا لو دفعتنا المشاكل التي نواجهها في علاقاتنا للعمل على تغيير جذريّ فينا بهذه الطريقة؟
في حقيقة الأمر، يُعَدّ نشوء رابط أكثر سواءً هو لبّ ونخاع العلاج التحليلي وأحد أهم الأسباب في كونه طويل الأمد! ومن أصعب الأمور تكوين علاقة بهذا العمق مع الحفاظ على مهنيتها وتركيزها على الهدف العلاجي. ومن هنا تظهر الأهمية القصوى للحفاظ على الإطار العلاجي والحدود بين المريض والمعالج. ذلك الإطار وتلك الحدود تُمَكّن العلاج من إنشاء رابطٍ أكثر سواءً. بالتأكيد ستعود كل مشاكل الروابط السابقة للظهور في العلاقة العلاجية، لكنها تكون قابلة للمعالجة والاستبصار بفضل وجود إطار ثابت وحدود آمنة إن استطاع الطرفان إدراك حقيقة أن التاريخ يحاول جاهداً أن يتكرر… والجهد المطلوب هنا عظيم…ـ
يُذكر أن سيݠموند فرويد كتب في رسالة لكارل يونݠ أن “التحليل النفسي هو علاج من خلال الحب”، كما يُحكَى أن زوجة جون بولبي، وهو من وضع نظرية الترابط، سألته عن سبب تسميته هذه للنظرية وكان رده أنه خشي أن يكون تسميتها بنظرية الحب غير لائق في الأوساط العلمية والمهنية… وبالطبع توجد تفاصيل كثيرة أخرى متعلقة بهذا المنظور لهذه العاطفة المحددة لحيواتنا، ولكن لن تتسع مقالة قصيرة للإسهاب فيها. وأرجو أن تكون هذه المقالة قد أثارت شيئاً من الفضول لديكم للتعمق في فهم النفس البشرية…ـ
والله من وراء القصد