يرفض بعضنا حب الآخر أو حنانه. بل قد يرفض مجرد قبول الآخر له أو ثناءه عليه. قد يكون الرفض سريعاً ومباشراً، وقد يتأخر قليلاً. قد يكون رفضاً على استحياء، وقد يكون صدّاً غاضباً مشحوناً...ـ
 تُرَى، ماذا يُفَسّر هذه الظاهرة؟
توجد تفسيرات كثيرة مختلفة…ـ
منها شخص أفنى حياته في تقوية آليات دفاعية تحميه من اختبار ما تعرّض له في نشأته من الألم العاطفي أو النبذ أو الهجر. يُرْعبه حب الآخر له لأن ذلك يهدد بسقوط جدران دفاعاته ليصبح معرّضاً مرة أخرى لما مرّ به في طفولته…ـ
ومنها أن يكون حب الآخر مسبباً للشعور بالذنب، لكون الشخص قد حصل على الحب، أو استحق الثناء لنجاحه في حين أن أحد والديه لم يحصل على ذلك. يخشى الشخص هنا، لامَوْعِيّاً، انتقام ذلك الوالد، فيرفض الحب أو الثناء استباقاً، بل قد يسعى لأن يُنهي ذلك الحب أو يمنع حدوث الثناء مرة أخرى!ـ
ومنها أن قبول الحبّ والحنان يوقظ وعي الشخص بأن لتلك الخبرة الجميلة نهاية، وأن كل علاقة حميمة تنتهي يوماً ما بفقدٍ أو انفصالٍ أو هجر، وأن الحياة يتبعها الموت حتماً. أن يُحَبّ المرء يعني أن لحياته معنى أعمق وقيمة أعلى، مما يجعل انتظار حتمية الموت أكثر تعذيباً له… خبرة الحبّ والقرب تؤدي هنا للقلق من الموت والفقد، فيسعى المرء للتقليل منها أو الانسحاب أو حتى العمل على تدهور العلاقة المُحِبة…ـ
ومنها أن قبول المَحبة يؤدي لإحساسٍ بالحيرة والضياع، فقد بنى الشخص هويته وعالمه الداخلي على أساسات من المعاناة أو النبذ أو كره الآخر أو احتقار الوالدين له… يتعارض، بل يتصادم تقدير الآخر له مع منظور الشخص لذاته ومفهومه عن هويته… فقد نشأ على تبجيل والديه المرتبط بتحقير ذاته، وأي خبرة معاكسة لذلك تتسبب في التيه والتشويش ويصعب استدخالها وقبولها…ـ
ومنها أن تعبيرات حب الآخر قد ارتبطت في خبرة الشخص بتعنيف الآخر له أو اعتدائه الجنسي عليه… عندما ينشأ الشخص على خلفية من صدمات الاعتداء ممن يُفترض أنهم يحبونه، قد يتحول الحب هنا إلى تهديدٍ بإعادة المرور بالصدمة، وتكرارٍ للعدوان عوضاً عن الحنان أو الاحتواء. كل قربٍ ولطفٍ من الآخر تهديدٌ وكل ثناءٍ يحتمل أن يكون إغراءاً للوقوع فريسة لاعتداءٍ جديد… لذا يتجنب الشخص كل فرص القرب من الآخر، وفي حال لم يستطع تجنبه، قد يصل به القلق من تكرار الصدمة ويقينه داخلياً بأنها قادمة لا محالة لمحاولة لامَوْعِيّة لإحداث الصدمة لينتهي عذاب ترقّبها! فيعيش في دوامة تقذف به من أقصى التجنب من جهة إلى تعزيز تكرار الصدمة من جهة أخرى…ـ
توجد تفسيرات أخرى كثيرة، ولكل فرد رافض للحب أو عاجزٍ عن قبوله قصته المتفردة… ولكني أجزم بأن ما يحتاجه كل هؤلاء هو علاقة محبة بلا شروط، تقبلهم على الرغم من رفضهم لذلك القبول، تحتويهم بوعيٍ أنهم قد يسعون لإنهاء الاحتواء أو تكرار الاعتداء، تقاوم الإغراء بتعدي حدود الشخص أو الإنقاص من قدره دون بعدٍ عن الموضوعية والواقعية، فأي مبالغة أو مجاملة أو تلطيفٍ غير واقعيّ يضر بمصداقية هذه العلاقة وقد يعزز مسببات رفضها.ـ
 وما وصفته هنا عن العلاقة التي يحتاجها من يرفض الحب ليس سوى سرد لبعض سمات العلاقة العلاجية في العلاج النفسي "طويل الأمد" ذي المعنى والقيمة الحقيقية. تطول مدة هذا العلاج لأنه من غير الممكن لما ترسّخ في ذات الشخص عبر عقود من حياته أن يتغير في أيام أو أسابيع أو شهور معدودة في علاقة كهذه… ويتطلب الأمر جهاداً من الشخص الذي يخوض العلاج لتغيير ما يقاوم عقله تغييره، ومعالجاً يقدر أن يقدم الحب بمهنية واستمرارية في إطار واضحة معالمه وحدوده…ـ

ـ #إفشاء_التراحم⁩ 

‏والله من وراء القصد

Back to Top