كثيرة هي التساؤلات التي تصلني عن استخدامي لـ"المَوْعيّ" و"اللاموعي" كمصطلحات عوضاً عما اعتاد عليه كثيرون مثل: الشعور/اللاشعور، الوعي/اللاوعي، الواعي/اللاواعي، العقل الظاهر/الباطن، وغيرها.ـ
كنت في مقال سابق قد شرحت المنهج الذي أتبعه في ترجمة المصطلحات. لم أكن من اقترح هذين المصطلحين (الموعي/اللاموعي)، والذين يتماشيان مع المنحى الثاني من المنهج الذي كنت قد شرحته، ولكن سأشرح سبب تفضيلي لهما هنا.ـ
لا يوجد اتفاق أو إجماع على تعريب واحد مقبول للمفاهيم المراد الإشارة إليها والمرتبطة بما يعيه العقل، تعريب يمكن استخدامه كوصف (صفة) لمحتوى عقلي، وكاسم مصدر لجزء من تركيبة العقل، وهما الاستخدامان الشائعان في التحليل النفسي، مع الاحتفاظ بنسب وظيفة الوعي (فعل بحاجة لفاعل) لكامل العقل أو الذات. وسأشرح هذه الاستخدامات أدناه. وقد قام زميلي المحلل د. متعب حامد العنزي
بطرح مقترح استعمال "اللامَوْعي" قبل سنوات، ووجدت أنه الخيار الأقرب لأن يفي بكل ما هو مطلوب من المصطلح ولم أعد أستخدم غيره. وأجد عيوباً في كثير من خيارات التعريب الشائعة مثل اللاشعور واللاوعي واللاواعي.ـ
ولنفهم أفضلية هذا الخيار لابد من فهم اشتقاق الكلمات وأوجه صرفها. الجذر (و ع ي) يحتمل معاني عديدة لكن الاستخدام الاصطلاحي لـ(وعى) يرمز لاحتواء شيء في العقل
وميزة هذه الكلمة عدم تخصيصها لماهية ما يحتويه العقل. قد يكون ذلك ذهنياً (كالأفكار والمعلومات والذكريات الروائية)، وقد يكون حسياً أو وجدانياً (كالمشاعر). طالما كان المحتوى العقليّ مُدْرَكاً أو معلوماً أو محسوساً أو قابلاً للتذكر، فهو محتوى "يعيه" العقل.ـ
الوعي (بصيغة فعْل) هو إذاً "وظيفة" من وظائف العقل، وليس "جزءاً" منه أو مكاناً فيه. العقل يقوم بهذه الوظيفة، أي أن العقل "فاعل" له من المنظور اللغوي
والمحتوى الذي يعيه العقل هو ما يقوم العقل بتطبيق وظيفة الوعي عليه، لذا فالمحتوى هو "مفعول به" لغوياً. لذا، نسبته للوعي بصيغة الصرف تلك تكون "مَوْعِيّ" (وكذلك "مُوعَى")ـ
إضافة "ال" التعريف للكلمة تجعل من الممكن الإشارة لمجموع ما تشير إليه كلمة مصوغة بصيغة المفعول وقابلة لأن تكون جمع كمجموعة أو كيان منفصل. فيصبح "المَوْعِيّ" إشارة لكل المحتوى الذي يعيه العقل. من هنا تأتي تسمية "اللامَوْعِيّ"،ـ بدون "ال" التعريف تشير إلى محتوى عقلي لم تنطبق عليه وظيفة الوعي، وبوجود "ال" التعريف يجوز أن تشير الكلمة لكل ما لا يعيه العقل من المحتوى.ـ
إن وصفنا المحتوى بأنه "وعي" أو "لاوعي" فنحن نصفه بما نصف به الوظيفة العقلية نفسها، ولا يصح ذلك فهو يخلط بين الفعل وما ينطبق عليه الفعل. إضافة "ال" التعريف يمكنها تحويل المحتوى إلى اسم جزء من هيكلة العقل لكونها إشارة جامعة لكل ما ترمز الكلمة إليه، وهو بالضبط ما قام به فرويد أصلاً
فرّق فرويد بين الجزء من العقل وبين محتواه في نظريته الطوپوݠرافية بأن سمى المحتوى
(unconscious)
وسمى الجزء من العقل
(System Unconscious)
أي نظام اللاموعي، ثم اختصر التسمية إلى
(Unconscious)
مفرقاً بينهما باستخدام حرف
(U)
الكبير، ونستعيض عنه في العربية بـ ال التعريف. ويمكن وضع
(the)
قبل الكلمة (كما في التعريف التاسع في الصورة أدناه)ـ
أي أنه ابتدأ بالمحتوى، حيث أن كلمة
(conscious)
هي لغوياً صفة في الأساس ويمكن أن تكون بصيغة مفعول به (كما في التعريف الرابع والسابع في الصورة أدناه)، بينما وظيفة الوعي هي
(consciousness).
من هنا تنتفي تماماً إمكانية استخدام "الوعي" و"اللاوعي" كترجمات مقبولة.ـ
يأتي الإشكال في كون
(conscious)
كلمة تستخدم لغوياً كصفة بصيغة الفاعل أيضاً (مثلاً: التعريف الأول والثالث في الصورة أعلاه)ـ
عندما نصف المحتوى بأنه "واعي" أو "لاواعي" (باستخدام صيغة "الفاعل") فنحن نمنح المحتوى وظيفة الوعي به، ولا يصح ذلك فالمحتوى مفعول به وليس فاعلاً لوظيفة الوعي. عدا أن المحتوى (أو أي شيء) لا يكون فاعلاً ومفعولاً به في آن واحد، لذا لا يصح استخدام صيغة الفاعل للإشارة إليه، وليس في كتابات فرويد ما يشير لاستخدامه الكلمة كفاعل إشارة للمحتوى أو حتى للجزء من العقل في نظريته، وإنما للفرد أو العقل بكامله. فالاستخدام الجامع لكل ما تشير له الكلمة (كجزء من العقل) لا يصح هنا أيضاً، حيث أن الجزء من العقل في نظرية فرويد الطوپوݠرافية ليس "فاعلاً"، بل تحدث عنه فرويد وكأنه موقع مكانيّ في العقل، ولذا كان اسم النظرية مشتقاً من (الطوپوݠرافيا)ـ
(topography).
لذلك فالفاعل في تلك النظرية هو كامل العقل/الذات. ومن هنا تنتفي إمكانية استخدام "الواعي" و"اللاواعي" سواءً من المنظور اللغوي أو المنظور النظري.ـ
وعوداً لـ (الوعي/اللاوعي)، فإن هناك اتفاق على وجود وظيفة عقلية نسميها "الوعي"، إلا أنه من المخالف للمنطق أن توجد وظيفة سلبية منه نسميها بـ"اللاوعي". وقد وجدت أن هناك من يستخدم لفظ "اللاوعي" إشارة لوظيفة عقلية (وصياغة اللفظ قد تغري بذلك) وهو أمر مرفوض تماماً. فعندما نصف محتوى لا يعيه العقل، فإننا لا نقول بأن العقل قد قام بعكس عملية الوعي به، وإنما ينطبق عليه إحدى الاحتمالات التالية: إما أنه لم يدخل نطاق ما يمكن وعيه (لم تنطبق عليه وظيفة الوعي) أو أنه دخل في ذلك النطاق ثم تم كبته، والكبت وظيفة عقلية تنطبق على ما سبق أن كان في نطاق الوعي (وفي هذه الحالة، إزالة الكبت تعيد المحتوى لنطاق الوعي)، أو أنه قريب من نطاق الوعي وليس بداخله ويمكن إدخاله نطاق الوعي بمنع إزاحته أو توجيه الانتباه نحوه أو إزالة حواجز الانتباه. فالوعي دائماً عملية موجبة ولا يمكن أن تكون سالبة، وغيابها غياب لموجب وليس طرحاً من الصفر أو العدم. ولو كان كذلك لما كان ممكناً أن نصف المحتوى (وهو موجود وليس ذا قيمة سالبة) بأنه خارج نطاق ما يعيه العقل، فهو إما أن يكون موجوداً لكنه غير مشمول في نطاق ما يعيه العقل أو غير موجود كمحتوى عقلي، وبالتالي لم يطبق العقل عليه أي وظيفة.ـ
من هنا نرى عدم دقة كل المصطلحات التي تُشتق من كلمة (وعي) المستخدمة بشكل شائع، عدا الموعي واللاموعي كصفات لمحتوى وأسماء مصدر لأماكن في العقل، والوعي كإشارة للوظيفة، ومن منظوري لا يصح استخدام الوعي/اللاوعي و الواعي/اللاواعي لكونها تخلط المعاني التي ترمز لها وقد تتسبب في تشويشها.ـ
أما عن استخدام "الشعور" و"اللاشعور"، فالخلط في المعاني هنا لا يبدو لي مبرراً بوجود البدائل المشتقة من (وعي). فعلى الرغم من كون (شَعَر) لغة تعني (عَلِم) وبخاصة في الاستخدامات القديمة، وبالتالي يمكنها الإشارة للمحتوى الذهني، إلا أن الاستخدام الذي شاع في العصور الحديثة يرمز للحواس والإحساس، وهو تخصيص لمحتوى حسي أو وجداني وليس ذهنياً بالضرورة، وهو تخصيص لبعض المحتويات العقلية وليس جمعاً لكل المحتوى. لذلك فأن كلمة "شعور" هي الترجمة الأنسب لكلمة
(feeling)
وجمعها (اصطلاحاً) "مشاعر"، وذلك في مقابل "العاطفة" والتي هي ترجمة لـ
(emotion).
وهي كلمات تستخدم اصطلاحاً لوصف تلك الوظائف العقلية الخاصة المشيرة للإحساس والوجدان. فهل من الحكمة استخدام "شعور" ومشتقاتها اصطلاحاً لتشمل وظائف أخرى مختلفة؟ وإن فعلنا، فكيف لنا أن نفرق بين أصناف المحتويات العقلية المشار إليها؟ ويزيد الأمر اختلالاً أن نستخدم اللفظ لوصف محتوىً محدد وفي الوقت ذاته وصف الوعاء الذي يحتويه (الجزء من العقل) واستخدام اللفظ للإشارة لوظيفة الاحتواء... كل ذلك في آن واحد.ـ
يحدث على سبيل المثال أن يعمل العقل على إخراج "شعور" ما (إحدى المشاعر) من نطاق ما يعيه، فلنتخيل فرضاً صياغة ما يحدث هنا باستخدام المصطلحات (الشعور/اللاشعور): "أزاح العقل الشعور من الشعور إلى اللاشعور فتحول الشعور من شعور شعوري إلى شعور لا شعوري". أي منطق لغوي يقبل بمثل هذه الصياغة؟
لذلك كله، فإن تفضيلي لـ"الموعي" و"اللاموعي" على "الشعور" واللاشعور" وعلى غيرها من المصطلحات المستخدمة مبرر لغوياً ونظرياً وأتوقع له حظاً أوفر في الحفاظ على المعنى المراد بهذه المصطلحات.ـ
أما عن استخدام ألفاظ مثل "العقل الباطن" والمنتشر لدى بعض العامة، فلا أعلم مصدره ولا يصح هذا الوصف الغريب علمياً. حيث أنه يفترض ضمنياً وجود أكثر من عقل واحد. فبينما يوجد في العقل من المحتوى ما يعيه وما لا يعيه، لا يوجد لدى الفرد عقل ظاهر وعقل آخر باطن. يكاد يكون هذا الوصف مرادفاً لاستخدام العوام لـ
(unconscious mind)
وهو استخدام غير دقيق علمياً، وبخاصة من منظور تحليلي. لذا أرجو أن يكون مصير هذه الالفاظ أن تنقرض لكي لا يؤثر انتشارها على المعاني التي نرمز لها بمصطلحاتنا.ـ
وضع المصطلحات التحليلية أمرٌ أوليه اهتماماً كبيراً (وقد تحدثت عن ذلك سابقاً هنا) لكون ذلك من أهم ما يمكننا من إيصال المعاني المعقدة بدقة والحفاظ عليها بقدر الإمكان من التشويش الناتج من الاستخدام الدارج لها. وأتمنى أن نحقق تلك الأهداف.ـ
والله من وراء القصد