وردتني تساؤلات خلال الشهور الماضية من عدد من المتابعين عن طبيعة ما أغرد به وما أنشره على صفحتي في الفيسبوك...ـ
وكان التعجب من عدم تقديمي لنصائح مباشرة (مثلاً: افعل كذا ولا تفعل كذا) على الأغلب، وإن وجدت استثناءات (خاصة في الرتويت).ـ
حقيقة، هذه الملاحظات صحيحة، وهو مبدأ أحاول تطبيقه والالتزام به متعمداً وإن لم أفعل سهواً فأنا هنا أعتذر عن ذلك التقصير.ـ
أحاول حتى في اقتباساتي التي أترجمها أو أعيد تغريدها أن أتفادى ما هو نصح أو توجيه مباشر، وأبحث عما يكون فيه ما يدفع للتأمل والاستبصار.ـ
هو مبدأ أؤمن به وبأهميته مهنياً. غرابته ناشئة من مصدره: نظريات وممارسة التحليل النفسي والعلاج التحليلي. في التحليل مبدأ راسخ تُبنى عليه آليات العلاج ومهاراته، ألا وهو أن التوجيه بشكل عام (وإن وُجدت استثناءات) يقاوم التحليل ويقف حجر عثرة في طريقه مضيفاً للتحليل جهداً إضافياً موجهاً للتعامل مع أثر التوجيه والذي هو تدخل من المحلِّل (المعالِج). هذا عوضاً عن ضعف فاعليته في إحداث تغيير جذري، وترسيخه لتمييز المحلل بكونه مصدراً لمعايير السلوك القويم أو منبعاً للحكمة، أو توكيداً لاعتمادية المريض وقلة حيلته. وفِي الواقع، يكون توجيه المحلل للمريض خبرة مشابهة لخبرات سابقة مر بها المريض تم فيها توجيهه، وبالتالي لها من الأثر عليه وعلى العملية العلاجية والعلاقة العلاجية الكثير.ـ
لكن لماذا أطبق هذا المبدأ في تغريدات يقرأها عامة الناس ولا توجد علاقة علاجية تحليلية مع قارئها؟ أليس للنصائح العامة المقدمة للناس من فوائد؟
ليس صحيحاً أن مبدأً يخص طبيعة العلاقة العلاجية لا ينطبق هنا. بل إنني أرى أن التوجيه على تويتر أشد خطورة من حدوثه في الحالة العلاجية، والتي يمكن فيها التعامل مع آثاره وحتى الاستفادة من الاستبصار الناتج عن تحليل تلك الآثار، بينما يخرج التوجيه المغرَّد به من نطاق قدرتي على التعامل مع أثاره والتي بدورها تكون مُغيّبة تماماً عن وعيي ولا يمكن حصرها حيث أنها متفردة لدى كل قارئ للتوجيه...ـ
ولنكن صادقين مع أنفسنا: كم من نصيحة أو توجيه يصلنا يومياً؟ كم منها تكرر مراراً في السابق وتعدد مصادرها؟ وكم منها نترجم في أفعالنا؟ وماذا عن تلك التي تؤثر في سلوكنا، لم لم يكن لها ذلك الأثر في ماضينا؟ هل لأن وضعنا اختلف، أم لأن الناصح اختلف، أم لأن طريقة النصح اختلفت؟ وما مدى استمرارية أثرها علينا؟ وكم من أمر طلبنا فيه التوجيه والنصح ولَم نستفد فيه من ذلك التوجيه؟ هل نبحث عن توجيه يناسب ميولنا وانحيازاتنا المسبقة وننأى عن تلك التي تخالف ما نميل إليه بغض النظر عن صحة وفائدة المحتوى؟
لكن الإشكال لا يتوقف عند معضلة معنى التوجيه... بل يتجاوزه لأخلاقيات المهنة أحياناً. كيف لي أن "أصف" وصفة سلوكية بشكل عام دون تخصيص لحالة عاينتها وقيمتها ووازنت فوائد الاختيارات الممكنة وأضرارها وتأكدت من دافعية المريض وفهمه لطبيعة الوصفة وتابعت تطبيقها وتداخلت في ذلك لتعديلها إن لزم الأمر أو التعامل مع مخرجاتها أياً كانت؟
عندما يعطي طبيب أو أخصائيّ نصيحة موجهةً لعامة الناس، أيأخذ كل ذلك في الاعتبار؟ أؤمن بأنه من الواجب عليه أن يفعل. أجزم بأن كثيرين ممن يقدمون النصائح العامة يهتمون بكل هذا، إلا أن أعداد من لا يضع هذه الاحترازات نصب أعينهم أكثر بكثير مع الأسف.ـ
لا يعني هذا عدم تقديم مادة نافعة للقراء. بل العكس هو الصحيح. تقديم المعلومات بقالبها العلمي المجرد من الأحكام والوعظ وبأكبر قدر ممكن من الموضوعية أمر ضروري ومفيد. أن يتغير سلوك إنسان نتيجة الحصول على معلومة يقلبها دماغه كيفما يشاء هو أمر يختلف عن الاستجابة لتوجيه مباشر. وربما يكون للقالب الذي تُقدَّم فيه المعلومة أثر على متلقيها أو لمكانة مقدم المعلومة دور في ذلك، إلا أن تقديم المعلومات أمر يسهل أن نقلل فيه من احترازات التوجيه المباشر، حتى ولو احتوى شيئاً من التوجيه غير المباشر. نشر العلم لا بد منه وإن استطعنا تقديمه بموضوعية كاملة (والكمال مُحال) فمن الممكن تفادي التوجيه غير المباشر، إلا أنه لا فرار منه على الأغلب.ـ
فلذلك لديّ قناعة أن نشر المعلومة أسلوب مجدي مع ما قد يشوبه، وتقديم التوجيه المباشر أسلوب قد يكون ضاراً ويكثر أن لا ينفع وإن وُجدت استثناءات. ووضع محتوى يدعو الإنسان لاستكشاف ما هو بحاجة إلى معرفته أو العمل به أدعى لأن يحدث التغيير عن قناعة داخلية وباستدامة ودافعية. أحاول الالتزام بهذا المبدأ، وأخطئ ذلك الهدف أحياناً.ـ
والله من وراء القصد.ـ