توجد في ثقافتنا الكثير من الأمور التي قد تبدو في ظاهرها بخلاف ما هي عليه في باطنها. منها انتشار اللقاءات على القنوات الفضائية التي يتم فيها حوار بين متحاورين تنقصهم آداب الحوار.ـ
لكي نفهم هذه الظاهرة يجب أولا أن ندرك بأن حدوثها بدرجة الانتشار الحالية يصعب تفسيره بأنه محض صدفة. أي أن حدوث هذه الظاهرة قد يكمن وراءه عامل نفسي لاموعي إن ابتعدنا عن التفسيرات الارتيابية التي تظن بأن مُعدّي هذه اللقاءات يتعمدون خلق جو من الجدال والسجال المؤدي إلى العراك اللفظي الذي نشاهده في هذه اللقاءات. ليس بالإمكان أن نجزم بوجود تلك النوايا المسبقة. ولكن بالإمكان محاولة فهم الشعبية التي تتمتع بها هذه البرامج والتي تؤدي بدورها لتشجيع استمرار مثل هذه المعارك الكلامية التي تمتلئ بالعنف المباشر وغير المباشر تجاه المختلف في الرأي وتظهر فيها قدرات المحاور على تقليص حجم الآخر وإهانته سواءً كان ذلك بلطف وخفة أو من خلال ارتفاع الصوت واستخدام الألفاظ النابية.ـ
ما الذي يفسر هذه الشعبية العالية والتي أدت إلى انتشار مثل هذه البرامج؟ ما الذي يؤدي بمُعدّي البرامج إلى اختيار متحاورين من المحتمل أن يخوضوا جدالاً من هذا النوع؟ـ
يركز كثير ممن نقد هذه الظاهرة على ضعف قبولنا للآخر وتحملنا للاختلاف. هذه التفسيرات تسلط الضوء على جانب هام وحقيقي من الموضوع ولكنها لا تسلط الضوء على سر شعبية هذه الظاهرة. بإمكاننا بسهولة أن نفهم بأن قبول الآخر وتحمل الاختلاف يقللان من احتمال حدوث معارك لفظية في الحوار. إلا أن ذلك لا يفسر تكاثر البرامج الحوارية على الرغم من أن جميعنا يعلم بأن تحمل الاختلاف ضعيف في ثقافتنا، وأن أمام قبول الآخر في مجتمعنا مشواراً طويلاً للحاق بما هو عليه في الدول المتقدمة. ولكني أزعم انه لا علاقة لهذين الأمرين بشعبية الظاهرة.ـ
من وجهة النظر التحليلية، ربما كانت هذه الشعبية امتداداً لشعبية كل ما احتوى على عنف ظاهر على وسائل الإعلام وفي الفنون والأفلام وفي الرياضة وفي الألعاب الإلكترونية. من المعلوم وجود شعبية عارمة لبرامج المصارعة ومباريات الملاكمة. ومن الظاهر للعيان مدى ربحية الأفلام التي تدور محاورها حول مشاهد العنف بجميع أنواعه وأشكاله ودرجاته بل وتتميز عندما تتميز مشاهد العنف فيها بشكل خلاق ومبدع. بل لننظر إلى ما يشد الانتباه في نشرات الأخبار مثلاً. فكلما كان الخبر عن حروب أو جرائم أو مصائب ينتج عنها خسائر في الأرواح والأموال كلما ازدادت قدرة الخبر على امتلاك جل اهتمامنا.  ليست المسألة منحصرة على العنف الجسدي. فجاذبية القصص الدرامية تعتمد إلى حد كبير على أنواع لطيفة وطفيفة من العنف غير المباشر مقصوداً كان أو غير مقصود بين شخصيات القصة. ولا أقصد بالعنف هنا مجرد تعمد إيذاء الآخر. فإن مجرد حدوث الأذى سواءً كان معنوياً أو عاطفياً أو فكرياً أو جسدياً هو برأيي صنف من أصناف العنف.ـ
لا يقتصر مفهوم العنف على إحداث الأذى عندما ننظر لامتداد مدى الدافعية النفسية وراءه. ففي أساس الظاهرة من المنظور النفسي التحليلي غريزة فطرية تسعى للعمل وإحداث الأثر على البيئة التي نعيش فيها بما في ذلك الأشخاص والأشياء. ففي كل فعل حركيّ نقوم به، بل وفي كل لفظٍ ننطق به (أو نكتبه كما أفعل هنا) محاولة إحداث أثرٍ ما على شيءٍ أو شخصٍ ما. نسعى لذلك لأنه لا حياة لنا ولا قابلية للنجاة دون سلوك مؤثر على بيئتنا.  لنتخيل مثلاً شخصاً جائعاً وقد رأى ثمرة تتدلى من شجرتها. سلوك الشخص هنا يحدد نجاته، ولكن درجة القوة التي يستخدمها في قطف تلك الثمرة قد تتراوح بين الرفق الهادئ والعنف المتسرع. في كل الأحوال فإنه بذل جهداً بحاجة لدرجة من القوة والطاقة لاستكماله. أي أن جنس السلوك واحد، وإن اختلفت درجات شدته وسرعته ودقة تطبيقه والحكمة في توقيته. لذلك، فإن النظريات التحليلية طالما ناقشت دور غريزة العنف على السلوك البشري، وكثيراً ما أسيء فهم تلك النقاشات. لا تستقيم الحياة دونما عنف من درجة ما في كل جوانب حياتنا! بل انظر إلى علاقاتنا الحانية… لو لم أستخدم درجة من العنف لما احتضنت ابنتي ولما حملت ابني ولما خرجت من حالة السكون للذهاب لمكان أشتري منه احتياجاتهما. في كل ذلك سلوك فاعل مؤثر بحاجة لبذل قوة من درجة ما على شيء أو شخص ما.  ومن ذلك أن الشخص الذي يُظهر ثقة في نفسه وجرأة في الحوار أو المَطالب يستخدم درجة فعالة محكومة من العنف بدونها يفشل في كثير من أمور حياته ويُنعت بالخجل أو الضعف أو قلة المروءة، وإن خرجت عن نطاق المقبول كان ذلك العنف غروراً أو تجبّراً أو خروجاً عن آداب متعارف عليها.ـ
من الممكن نظرياً لهذه الغريزة أن لا تكون تحت أي سيطرة أو إدارة، وبذلك تدمر بدلاً من أن تبني وتقتل بدلاً من أن تحتضن. لكن النماء النفسي في مراحل طفولتنا المبكرة يزرع في كلٍ منا أدوات للسيطرة عليها وتوجيهها وقواعد قِيَمِيّة تحدد كيفية الإفادة منها وأنماط في العلاقات المبكرة تنبني من خلالها مفاهيم ثقافية وآداب اجتماعية ترسم حدود السلوك وتملي على الفرد زمن ومكان التنفيس عن تلك الرغبة. ومن خلال هذه الحدود والقيم والمعايير تنشأ إمكانية قبول الآخر وتحمل الاختلاف والتعايش معه. تزداد قدرة الطفل مع مرور الزمن وتزايد النضج على تطبيق هذه القواعد والالتزام بتلك المعايير والتحكم بلجام تلك الغريزة. زمنياً، يحدث هذا التطور والتعلم في المرحلة التي تكون فيها القوة البدنية للإنسان ضعيفة، مما يضمن تنظيم الظاهرة قبل وصول المرء للمقدرة على الإضرار بما حوله.  من أغرب ما أثبتته الدراسات التي راقبت السلوك العنيف والذي فيه إيقاع للأذى بالآخرين أو بالأشياء أن المرحلة العمرية التي تحدث فيها هذه السلوكيات (من حيث عددها) أكثر من غيرها في حياة الإنسان هي مابين الثانية والثالثة من العمر! يزداد أثر السلوكيات العنيفة المؤذية مع تقدم العمر لكن يقل عددها.ـ
إذن فإن النفس البشرية تنشأ على كبت غريزة العنف (أي منع الدافعية من الوصول للوعي) وقمعها (أي منع تفعيلها إن وصلت للوعي) وإدارتها  وتوجيهها وتحديدها عندما ترى أنها تؤدي إلى نفعٍ ما. لكن كل ذلك يحدث دون استحضار للنوايا وبلا تخطيط مسبق في أغلب الأحيان. ويكون لقدرة الإنسان على تنظيم مشاعره والتعامل مع الضغوط ونضج آليات دفاعه اللاموعية دور كبير في ما ينتهي به من سلوك. إلا أننا في النهاية نكبت غير قليل من طاقة هذه الغريزة دون علم بأننا لذلك فاعلون. وقد تبحث هذه الطاقة المكبوتة عن متنفس لها عبر تعبير غير مباشر، أو عبر إنابة الآخر. فعندما نشاهد سلوكاً عنيفاً عن بعد أو من وراء شاشة التلفاز، قد نسمح بالتنفيس عن بعض تلك الطاقة دونما خوف من عواقب لذلك علينا. إن من عبقرية العقل البشري أنه أوجد عدداً لا يحصى من الأعمال والنشاطات التي يمكن بها التنفيس عن هذه الرغبة دونما ضرر يلحق به، هذا عوضاً عن المجالات التي يحدث فيها التسامي بهذه الرغبة لتحقيق المنفعة للفرد أو المجتمع. ففي البناء والنحت والألعاب الرياضية تنفيس حركي وبدني، وفي الأعمال الفنية والقرارات الإدارية والسياسية والأبحاث العلمية التجريبية خليط من التنفيس الحركي والذهني والعاطفي، وفي المشاهدة والتشجيع والاهتمام وزرع الثقة في الآخر تنفيس عاطفي غير مباشر أو بالإنابة. بل إن من العبقرية التي بدأت ربما عند الإغريق القدامى الخوض في الجدال الفكري حيث يقوم الطرفان بقبض وبسط عضلاتهما الذهنية في فرض منطق أو مفهوم أو إيصال فكرة أو استنباط حكمة أو استقراء فلسفة. وفي حلبة المصارعة الذهنية هذه وضعوا قواعد وقوانين لممارستها وحدوداً يقبلون بها يعتبرون من تعدّاها ساقطاً من برج الحضارة العاجي. إلا أن هذا كله يتطلب درجة من التواصل العاطفي مع الآخر وتقديره بحيث تتكون لدى المُجادل دوافع لحماية من يجادله من الإفراط في التنفيس عن عنفه الذهني.ـ
أما في متابعة المعارك اللفظية عن بعد فإن فيها من إنابة الآخرين للتعبير عن العنف غير المباشر ما يكفي لإشباع جزء من رغبتنا المكبوتة والتنفيس عنها. تختفي لدى بعض المشاهدين القدرة على المواجدة مع هؤلاء الغرباء البعيدين الذين يؤلمون بعضهم البعض. وهذه البرامج تشبه في إيجادها لتلك الحال لدى بعض من يشاهد كل ما سواها في الإعلام من أصناف العنف المباشر وغير المباشر، وتختفي في باطنها جاذبية فرصة ذهبية للتنفيس عن غريزة مكبوتة بينما ترتدي في ظاهرها حلة النقاش الذي أُريد به أن يكون هادفاً. إلا أن هذه المعارك الكلامية لا تندرج في رأيي بين إبداعات الإنسان في التسامي بتلك الرغبة الغريزية. بل أظنها من أنواع النكوص الذي يعود بنا للتعبير الخالي من النضج لدى الأطفال في الثالثة من العمر ولكن من خلال أجساد بالغين وألسنتهم. تكاد بعض هذه المعارك لتكشف عن مكامن الخلل في أنماط علاقات المحاورين المبكرة والتي لها دور عظيم نشأة شخصياتهم وفي إدارة المشاعر وتنظيم التنفيس عن الغرائز. ولكن يتبقى سؤال لا إجابة وافية عليه نستطيع تعميمها، فقد تختلف باختلاف كل فرد. فلم يكن موضوع النقاش متمحوراً حول ما يقوم به المتحاورون بقدر ما كان حول شعبية ما يفعلون لدى المشاهدين: عن ماذا تكشف هذه الظاهرة لدى المشاهد الذي بمتابعته وشغفه ساهم في انتشار الظاهرة؟ـ

Back to Top